اشتدت حرارة الصيف وأرسل رماحه اللافعة وسياطه اللاذعة في كل مكان مذكراً بنار الآخرة وفيح جهنم ، قال صلى الله عليه وسلم :" إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم " ، رواه الشيخان.
وبرغم هذا الحر وشدته إلا أن بعض الناس يعيشون حالة من الطوارئ مشكلين ظاهرة اجتماعية كبيرة ، وقضية مهمة خطيرة ينبغي الوقوف عندها ، هذه الظاهرة ترسم لها الخطط والمناهج، وتعد لأجلها الدراسات والبرامج ، تلكم هي الإجازة وما أدراكم ما الإجازة؟ الاستعدادات قائمة على قدم وساق حزمت الحقائب ورتبت التذاكر، وتلاقحت الأفكار وتبادلت الآراء هل يقضونها في الشرق أم في الغرب في الداخل أم في الخارج؟ هل يقضونها في السياحة والاعتبار والنظر في الآثار والديار، أم في المعاصي والآثام وغضب الواحد القهار ؟ .
في الإجازة ينقسم الناس إلى قسمين : قسم عرف أنها إجازة للراحة من عناء الدراسة أو العمل ، فجعلها فرصة لاغتنام حياته قبل الموت وتقديم عمل صالح قبل الفوت ، سافر بأهله وأبنائه إلى بيت الله الحرام أو إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم واستغل إجازته في طاعة وعبادة وذكر. علم أن الدنيا رحلت مدبرة والآخرة رحلت مقبلة فكان من أبناء الآخرة وطلاب النعيم المقيم . فنعم القوم هؤلاء، وبارك الله في ابن تذكر والده أو والدته فزارها ، أو قريب تذكر رحمه فوصلها، فكسب بذلك الحسنى .
وقسم آخر فهم أن الإجازة أيام وتنقضي ، فملأوها لهواً وفجوراً ، واتباعاً للهوى والشيطان ... أفسدوا أعمالهم وخبثت أنفسهم وأضاعوا دنياهم وأخراهم ، وتركوا أولادهم نهباً لرفقة السوء تنزع منهم في الصيف ما اكتسبوه في دراستهم من علم وأخلاق .
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
كم هو مبهج أن يرتاح الإنسان بعد كد، وأن يتنفس بعد عناء، فالترفيه البريء والترويح المباح ، لا غضاضة على الإنسان فيه، بل قد يكون مطلوبًا أحيانًا لأغراض شرعية كالإعانة على الطاعة وتنشيط النفس بعد كسلها من عناء العمل وغير ذلك.
‏عن ‏ ‏حنظلة الأسيدي رضي الله عنه ‏وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ‏لقيني ‏ ‏أبو بكر ‏ ‏فقال كيف أنت يا ‏ ‏حنظلة ‏ ‏قال قلت نافق ‏ ‏حنظلة ‏ ‏قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم‏ ‏يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏عافسنا ‏ ‏الأزواج والأولاد ‏ ‏والضيعات ‏ ‏فنسينا كثيراً ، قال ‏ ‏أبو بكر ‏ ‏فوالله إنا ‏ ‏لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا ‏ ‏وأبو بكر ‏حتى دخلنا على رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏قلت نافق ‏ ‏حنظلة ‏ ‏يا رسول الله فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك ‏ ‏عافسنا ‏ ‏الأزواج والأولاد ‏ ‏والضيعات ‏ ‏نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏والذي نفسي بيده إنكم ‏ ‏لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا ‏ ‏حنظلة ‏‏ ساعة وساعة، ثلاث مرات . رواه الترمذي ومسلم واللفظ له .‏
فالترفيه ينبغي أن يكون في حدود ما أباح الله ، والإسلام لا يحجر على المسلمين أن يروِّحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم ، وأن يقوموا بالوسائل المباحة في ذلك شرعاً.لكن المذموم أن يُستغَل ذلك فيما يضعف الإيمان، ويهزُّ العقيدة، ويخدش الفضيلة، ويوقع في الرذيلة، ويقضي على الأخلاق والمثل .
إنَّ المسلم الحق يدرك أن الراحة لا بد أن تكون زادا ومعيناً على أمر الآخرة ، ويعلم أنه ليس له راحة في هذه الدنيا حتى يطأ بقدميه الجنة ، أما ما دام في هذه الدنيا، فهو في دار التكليف والعمل قال تعالى { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } فالعبادة هي مهمته ، وهي وسام عزه وتاج شرفه وعنوان سعادته وسر وجوده قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } . فحيثما كان وحلَّ، وأينما وُجِد وارتحل ، فإنه يضع العبودية لله شعاره ، وطاعته لربه دثاره. وأمارة ذلك ثباته على دينه وعقيدته، واعتزازه بإسلامه وافتخاره بمبادئه وثوابته ، لا يصده عن دينه زمانٌ ولا يحول بينه وبين عبوديته لربه مكان دون مكان ، فمحياه كله لله، وأعماله جميعها لمولاه { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتـي للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } .
ولكن البعض طغى عليهم الانتماء السلبي، وغلب عليهم الفكر الهامشي وسيطرت التبعية على جوانب كثيرة من حياتهم ، مما جعلهم أجيالاً تسيء فهم الإسلام على حقيقته ، وجعل للوثات الفكر المنحرف ومظاهر السلوك المحرم رواجاً في تكوين شخصيتهم في انهزامية ظاهرة وتبعية ممقوتة وانسياق محموم ولهث مذموم خلف سراب موضات التشبه والتقليد، وبهارج العلمنة والتغريب حتى أضاعوا هويتهم الدينية، وفقدوا معالم الشخصية الإسلامية وتعلقوا بالدنيا ونسوا الآخرة ولم يستعدوا لموت ولا بعث ولا نشور .
نصحتك فاستمع قولي ونصحي فمثلك قد يدل إلى الصـواب
خلقنـا للممـات ولـو تركنـا لضاق بنا الفسيح من الرحاب
ينـادى في صبيحـة كل يـوم لِدوا للموت وابنوا للخــراب
إن الوقت هو مادة الحياة ؛ والزمن هو وعاء العمر، فالواجب استثماره في مرضاة الله، وشغله بطاعته سبحانه، فإن الإنسان مسؤول عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه ، قال صلى الله عليه وسلم :" لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه " ، أخرجه الترمذي وغيره من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه . فالمستفيدون من الوقت هم الذين أعدوا لكل يوم عمله ولكل شهر مشروعه وجعلوا من أوقات الراحة لحظات نافعة وفرصاً نحو الخير دافعة.
يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد، فعند الجذاذ يَتبين حلو الثمار من مرها.أ . هـ . رحمه الله .( الفوائد 164 ) .
فمن أكبر علامات المقت إضاعة الوقت ، فليس الوقت من ذهب كما يقولون بل هو أغلى من الذهب واللؤلؤ ومن كل جوهر نفيس أو حجر كريم ، إنه الحياة والعمر، والإنسان يفتدي نفسه بكل غال ونفيس، قال ابن مسعودرضي الله عنه : " ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي " . فمن أمضى يوماً من عمره في غير حقٍ قضاه أو فرضٍ أدّاه أو مجد أثّله، أو فعل محمود حصّله، أو علم اقتبسه، َفَقَدَ يومه وظلم نفسه وخان عمره .
وليعلم الذيـن أهدروا أوقاتهم وبدَّدوا أعمارهم في غير مرضات مولاهم أنَّ أيام العمر قليلة، وأقل منها أيام الإجازة، وهي شاهدة لهم أو عليهم فليعمروها بالطاعات ، قبل أن تهدمهم بالسيئات وليتقوا يوماً يرجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون.
كأن المنايا قد قصدن إليـك يردنك فانظر ما لهـن لديـك
سيأتيك يوم لست فيه بمكرم بأكثر من حثو التراب عليك
من أهم أسباب تضييع الإجازة : وقوع الكثير من الأبناء والأمهات فريسة الفراغ بسبب توقف الدراسة والمذاكرة ، والفراغ نعمة من نعم الله تعالى على العبد ، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ " .فهو نعمة يجب استغلالها بالطاعة والعبادة ، أو بالأمور المباحة شرعًا دون ما هو محرم ، ففيما أحلَّ الله غنية عما حرم، وقد أرشد المولى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى استغلال الفراغ بقوله { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ * وَإِلَىٰ رَبّكَ فَٱرْغَبْ }.فمن فرغ من الفريضة فلينصب إلى النافلة ، ومن فرغ من الصلاة فلينصب إلى الدعاء ومن فرغ من أمر الدنيا فلينصب إلى أمر الآخرة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" اغتنم خمساً قبل خمس "، وذكر منها: " وفراغك قبل شغلك " رواه الإمام أحمد والبيهقي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
فإذا لم يضبط الفراغ بهذا الضابط فإنه سينقلب إلى نقمة وبلية ومفسدة للمرء وتسلط من الشيطان وقفل لباب العمل ... فكم كان الفراغ سبباً في الانحراف بكل ضروبه، والفساد بشتى صوره ، عند عدم استثماره، فهو منَّة ونعماء، لكن إذا استغِلَّ في معصية الله فهو نقمة وبلاء.
وإلى الذين حزموا حقائب السفر نقول : إن السفر في الإسلام لا بأس به، بل قد يكون مطلوباً لمقاصد شرعية ، يقول الثعالبي رحمه الله: من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى، ويدعوه شكراً على نعمه.
تلك الطبيعة قف بنا يـا سـارِ حتى أريك بديع صنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزتا لـــروائـع الآيــــات والآثـار
لا يصلح النفوسَ إذا كانت مدبرة إلا التنقل من حال إلى حال".فالماء الدائم يأسن، والشمس لو بقيت في الأفق واقفة لمُلَّت والأُسْد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب .
لكن السفر في الإسلام له حدود مرعية ، وضوابط شرعية ، منها أن يكون السفر في حدود بلاد الإسلام المحافظة ، أما أن يكون إلى بقاع موبوءة ومستنقعات محمومة ، وبؤر مشبوهة، فلا، ما لم يكن ثمَّ ضرورة، مع القدرة على إظهار شعائر الإسلام، وهل يُلقى الحمل الوديع في غابات الوحوش الكاسرة، والسباع الضارية؟ ، أخرج الترمذي وأبو داود بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا بريء من رجل يقيم بين ظهراني المشركين " وقال تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً} . وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهد في سبيل الله والداعية إلى الله والمسافر للعلاج أو لدراسة ما ينفع المسلمين أو للتجارة، كل ذلك مشروط بأن يكون مظهراً لدينه، عالماً بما أوجب الله عليه، قوي الإيمان بالله، قادراً على إقامة شعائره، وللضرورة حينئذ أحكامها.
وإلى الذين عزموا على السياحة نقول : إن السياحة لفظة براقة، وعبارة أخَّاذة استهوت الكثير وجذبت أمثالهم ولكن هذه السياحة لها دلالاتها الشرعية، فكم كان أسلافنا يجوبون الأرض شرقًا وغرباً جهاداً في سبيل الله، ودعوة إلى دين الله، بأفواههم وأفعالهم وسلوكهم وحسن تعاملهم . نعم لاستثمار السياحة في هذا المقصد العظيم بمفهومها النقي النظيف المنضبط بالضوابط الشرعية ، غير أن مما يبعث على الأسى أن في الأمة منهزمين كُثر، عبّوا من ثقافة الغير حتى ثملوا ، وزعموا وبئس ما زعموا أن السفر والسياحة لا يمكن أن تتحقق إلا بأيام سوداء، وليال حمراء، ومجانبة للفضائل، ونبذ للحياء، وإعلان بالفضائح، ومجاهرة بالقبائح .
إن الولوغ في هذه المياه العكرة، والانسياق وراء أمراض الأمم المعاصرة، وأدواء المجتمعات المنحرفة، وإفرازاتها المنتنة، لا يمكن أن يقبله ذوو النفوس المؤمنة، والمجتمعات المحافظة.
نعم لسياحة التأثير لا التأثّر، والاعتزاز لا الابتزاز، والفضيلة لا الرذيلة، والثبات لا الانفلات ، لقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أعداء الإسلام يستهدفون أفواجاً من السياح المسلمين ليوقعوا بهم ويبهروهم عن طريق الغزو الفكري والأخلاقي وجرّهم رويداً رويداً، إلى حيث الخنا والفجور، والمخدرات والخمور، والتبرج والاختلاط والسفور، بل قد يرجع بعضهم متنكّراً لدينه ومجتمعه وبلاده وأمته ، ويستغلونهم اقتصادياً ، حيث بلغ مجموع ما ينفقه السائحون إلى بلاد الغرب حوالي 17 مليار ريال ، هذه المبالغ تؤثر في المجتمع شعروا أم لم يشعروا، فمن الناحية الاقتصادية سحب هذه الأرصدة وإخراجها خارج البلاد له تأثير كبير في اقتصادها ، ومن ناحية أخرى، فيها إنعاش لاقتصاد الدولة الأخرى ، ودعم لأرصدتها، فإذا كانت تلك من بلاد الكفار، صار دعماً بطريق غير مباشر، وإذا كانت دولة كافرة محاربة، أصبح هذا المال سبباً لقتل المسلمين .
يجب على هؤلاء أن يجعلوا ولاءهم لدينهم وأمتهم ، فيحركوا هذه الأموال في بلادهم، ويقيموا بها مشاريع نافعة، تعود عليهم بالأرباح، وعلى بلادهم بالنماء والخير والازدهار، بدلاً من أن يسافروا بها للهوى والشيطان، وينفقونها على ترف رخيص، وعلى بذخ في الأكل والسكن .
أين عقول ذوي الألباب عن الإحصاءات المذهلة من مرضى الهربس والإيدز، ومن عصابات وشبكات الترويج للمسكرات والمخدرات . إننا نناشد المسافرين والسائحين أن يتقوا الله في أنفسهم وأسرهم، ومجتمعاتهم وأمتهم، ونذكرهم قبل أن ترفعوا أقدامكم: فكروا أين تضعونها، فمن مشى غِرّة في موضع زلق. واعلموا أن الله يراقبكم ، فلا يراكم حيث نهاكم، ولا يفقدكم حيث أمركم { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .
سافروا للخير والفضيلة، والدعوة والإصلاح، فلا حجر عليكم، وكونوا ممثلين لبلادكم الإسلامية، مظهرين لدينكم، داعين إلى مبادئه السمحة، حيث يتخبط العالم بحثاً عن دين يكفل له الحرية والسلام، ولن يجده إلا في ظل الإسلام.
كونوا سفراء لدينكم وبلادكم ، مثلوا الإسلام أحسن تمثيل، كونوا دعاة بأفعالكم وسلوككم ، لا تبخلوا على أنفسكم باصطحاب رسائل تعريفية بالإسلام ومحاسنه وتعاليمه السمحة ، فوالله إن دخول كافر واحد في الإسلام خير لكم من حمر النعم .
والحذر الحذر أن يفهم العالم عن المسلمين وشبابهم أنهم أرباب شهوات وزبانية ملذات ، بل أفهموهم بسلوككم أنكم حملة رسالة، وأصحاب أعلى هدف وأشرف غاية، ذوو شخصية فذة، وشريعة خالدة، ودين يرعى العقيدة والمبادئ والقيم، ويدير الحياة عن طريق الحق والعدل والسلام، ويبحث عما يكفل للعالم الرقي والتقدم والحضارة.
* ــ ومما ينبغي التحذير منه، ما تعْمِد إليه بعض الشركات والمؤسسات السياحية من الدعوة إلى السفر إلى بلاد موبوءة، وإظهارها بدعايات مغرية وإعلانات مزخرفة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب ، إنها قنابل موقوتة ، وألغاماً مخبوءة ، لنسف المبادئ، ودوس القيم والأخلاق والفضائل.أين هذه الشركات من الترويج للسياحة داخل هذه البلاد المباركة التي حباها الله بمقومات شرعية وتاريخية وحضارية تجعلها مؤهلة لتكون بلد السياحة النظيفة النقية ، إنها قادرة على إعطاء مفهوم صحيح، ووجه مشرق للسياحة، التي خُيل لبعض المفتونين المنهزمين أنها صناعة الفجور والإباحية والانحلال .
لقد منَّ الله على هذه البلاد بالحرمين الشريفين، مهوى أفئدة المسلمين، ومحط أنظارهم ، ومنَّ عليها بالأجواء المتنوعة التي تشكل منظومة متآلفة منسجمة يقلّ نظيرها في العالم ، فمن البقاع المقدسة إلى الشواطئ الجميلة، والبيئة النظيفة السليمة من أمراض الحضارة المادية وإفرازاتها، إلى الجبال الشُمَّ الشاهقة، ذات المنظر الجميل، والهواء العليل، والأودية الخلابة، مروراً بالمصائف الجميلة، والصحارى البديعة، والقمم الرفيعة، والوهاد الواسعة، والبطاح الشاسعة، ذات الرمال الذهبية العجيبة، وأهم من هذه المقومات المادية والحسية المقومات المعنوية، والميزات الشرعية، والخصائص الإسلامية والحضارية، والآداب العربية الأصيلة، التي تحكي عبق التأريخ والحضارة، المعطّرة بالإيمان، النديّة بالمروءة والإحسان، فلماذا يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ، في تأثيرات عقدية وثقافية، وانحرافات أخلاقية وسلوكية، ومخاطر أمنية، وأمراض صحية ووبائية، مما لا يخفى أمره على ذوي العقول والحجى؟!! . السياحة الداخلية تحقق لمن ينشدون الطهر والعفاف والنقاء والفضيلة والخير والحياء، التمتع بأجواء سياحية مباحة، وتسدّ الطريق أمام الأبواق الناعقة، والأقلام الحاقدة، التي تسعى لجرِّ هذه البلاد المباركة وأهلها إلى ما يفقدها خصائصها ومميزاتها، ويخدش أصالتها وثوابتها.
وإلى الشباب ، من الأبناء والبنات ، عصب الأمة وشريانها النابض، إلى من يؤمل فيهم كل خير، ويرجى منهم كل نفع ، إليك أيها الشاب أقول : أخي الشاب ما نسبك، ومن قدوتك، وما هدفك، وكيف السبيل إليه ؟ . أما نسبك فأنت ابن خالد بن الوليد، وعمار بن ياسر، وحنظلة، وسعد، والفاروق، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، هؤلاء هم آباؤك وأجدادك، واسأل التأريخ يخبرك بصدق هذا القول، فلا تكن ابناً مشوهاً لصورة أجداده، فإن التأريخ ينتظر منك عملاً تثبت به أنك ابناً باراً رافعاً لرؤوس آبائه .
دعني أخاطب عقلك الواعي وقلبك الحافظ ، كل واحد منا قد جعل لنفسه قدوة ، فمنا من جعل قدوته إمام المرسلين وسيد المتقين محمد عليه الصلاة والسلام ، ومنا من جعل قدوته مطرباً أو لاعباً أو لاهياً أو غير ذلك ، فهل قدوتك سينفعك بعد موتك ؟ هل سيشفع لك عند الله ويجادل عنك حتى يدخلك الجنة؟ أم أنك ستعجب به الآن وتستمتع لغنائه، وتقلد حركاته وسكناته ، ثم يوم القيامة، يلعن بعضكم بعضاً، ويتبرأ بعضكم من بعض ؟ .
أخي الشاب: لا تضيع وقتك خلال الإجازة في قيل وقال، وفي لهو ولعب، فأمتك تنتظر منك أعلى من ذلك، إخوانك في بلاد الإسلام يقتلون، ويذبحون، فكن معهم بقلبك ودعائك .فالمسلم المتمسك بإسلامه وإيمانه وأخوة الإسلام يشعر بشعور إخوانه المسلمين ، يتذكر أحوالهم ومآسيهم ، لا سيما الذين يعيشون حياة القتل والتشريد والاضطهاد ، يفكر بأحوال إخوانه في العقيدة، ويهتم بمقدسات الأمة وما يمر به الأقصى المبارك، وما تكابده فلسطين المسلمة ،حيث شلالات الدم المتدفقة والأشلاء تملأ الأزقة والطرقات ، وقل مثل ذلك في الشيشان الصامدة، وكشمير المجاهدة ، في الوقت الذي يفكر فيه كثيرون بالتمتع بإجازاتهم في منتجعات ليست للكرام ولا كرامة فالله المستعان .
أيها الآباء والأمهات : إن الشباب هم عماد الأمة وقلوبها النابضة وشرايينها المتدفقة وعقودها المتلألئه ، هم جيل اليوم، ورجال المستقبل، وبناة الحضارة، وصناع الأمجاد، وثمرات الفؤاد، وفلذات الأكباد، فاحرصوا على تربيتهم تربية صحيحة شاملة، واشغلوا أوقاتهم ببرامج هادفة ونشاطات مفيدة تكسبهم المهارات، وتنمِّي فيهم القدرات، تقوِّي إيمانهم، وتصقل فكرهم، وتثري ثقافتهم .
أين الآباء والمربون من إعداد البرامج الشرعية المباحة ، وهي كثيرة بحمد الله ، كحفظ كتاب الله عز وجل ، واستظهار شيء من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتعلم العلم النافع، وكثرة القراءة في كتب أعلام الإسلام قديماً وحديثاً والاطلاع على السير والتآريخ والآداب ونحوها، وإدخال السرور عليهم بالذهاب بهم إلى بيت الله الحرام في عمرة، أو إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة، أو إلى أحد مصائف هذه البلاد في سياحة بريئة ، في محافظة على دينهم وأخلاقهم، وصلة لأقاربهم وأرحامهم، حتى لا يقعوا فريسة في دهاليز الإنترنت، وشبكات المعلومات، وضحايا في سراديب القنوات والفضائيات، وأرصفة البطالة واللهو والمغريات.
ومما ينبغي الحذر منه حضور المهرجانات الغنائية التي بدأت تنتشر بحجة السياحة ، إن سماع الغناء والموسيقى محرم أشد التحريم قال الله تعالى{ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } وقد حلف الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ثلاث مرات أن المراد به الغناء. وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم : " ليكونن من أمتي أقواماً يستحلون الحرى والحرير والخمر والمعازف " . كما ينبغي الحذر من التساهل في مسألة الحجاب والستر بحجة السفر والسياحة حيث يحصل من بعض النساء تساهل في هذه المسألة وتبرج واختلاط بالرجال في الأماكن العامة والحدائق والمنتزهات دون تحفظ فتعرِّض المرأة نفسها لأمور هي في غنىً عنها ، والأعجب هو سكوت الزوج ورضاه بذلك ، كل ذلك بحجة : السياحة وأنه لا داعي للتضييق على الأهل والأولاد ونسوا قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها} .
قال رجل لعامر بن عبد قيس أحد التابعين الزهاد : كلمني، فقال له عامر : أمسك الشمس واحبسها عن المسير حتى أكلمك، فإن الزمن متحرك دائب المضي. ونُقل عن الإمام أبو يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم أنه كان وهو في النزع يُباحث بعض عُوَّاده في مسألة فقهية، رجاء النفع بها لمستفيد أو متعلم، حرصاً منه على ألا يخلي اللحظة الأخيرة من لحظات حياته من كسبها في مذاكرة علم وإفادة واستفادة .
هكذا كانت حال السلف مع أوقاتهم يُسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، ضناً منهم بالوقت، وحرصاً على أن لا يذهب منهم هدراً. وقد أورث ذلك نتائج أشبه بالمعجزات، وإذا بالإنجازات قريبة من الخيال، فحسبك منها حركة الفتوحات التي كانت على قدم وساق وخيول المسلمين التي أزكم أنوفها غبار المعارك وأعلى صهيلها الكر والفر، فضلاً عن الإنجازات في تربية وإعداد النشء الجديد ناهيك عن وثبة بعيدة المدى في التصنيف والتأليف والابتكار هكذا كانت أحوالهم يوم عرفوا قيمة الزمن ، وهكذا كانت إنجازاتهم يوم اتسعت مداركهم ونضجت عقولهم .
إذا كان هذا تاريخ أسلافنا الأوائل وهكذا كانوا ، فإننا مطالبون بالإقتداء بهم، وذلك باستثمار كل دقيقة وثانية من عمر الزمن نتقرب فيها إلى الله جل جلاله ونسابق إلى جنته وموعوده من خلال تربية ذواتنا، وإعداد أجيالنا لتكون قادرة على العطاء بلا حدود.
إن البدائل متاحة، والمجالات مفتوحة لاستثمار الوقت، وشغل الفراغ في هذه الإجازة :
فالمراكز الصيفية منتشرة في كل مكان وهي من أهم الوسائل لاحتواء الشباب وتصريف طاقاتهم فيما يخدم الأمة وينفعها في مستقبلها ، ففيها يتلقى الدروس التربوية، ويتعلم كيف يكون إيجابياً في خدمة أمته ومجتمعه، فضلاً عن البرامج المفيدة لصقل المواهب وإنمائها، واستغلال القدرات وتوجيهها، ناهيك عن الرحلات التربوية، حيث الترويح البريء والمتعة المباحة . وهناك حلق تحفيظ القرآن الكريم مشعل الهداية، ومحضن التربية الإيمانية ، ومائدة من موائد القرآن التي ينهل منها الناهلون الآداب الفاضلة، والأخلاق الحميدة، والصفات العالية وإن خير ما اشتغل به المشتغلون من أعمال القرب كتاب الله تعلماً وتعليماً، قال صلى الله عليه وسلم :"خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، رواه البخاري. وقالصلى الله عليه وسلم : " أهل القرآن هم أهل الله وخاصته " رواه أحمد. ومن نعم الله تعالى على هذه البلاد كثرة حلق القرآن الكريم فاحرص يا رعاك الله على المشاركة فيها وإلحاق أبنائك في صفوفها.
وهناك حلق الذكر ومجالسة العلماء التي تبحث عنها الملائكة الكرام فتحفها بأجنحتها ، وتغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة، ويذكر الله أهلها فيمن عنده ، وهذا لا يتعارض مع الإجازة ، فقد كانت سياحة أسلافنا رحمهم الله في طلب العلم ومجالسة أهله ، فهذا الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله يؤلف كتابا كاملا سماه (الرحلة في طلب الحديث) ويزداد عجبك حينما تعلم أن هذا الكتاب لم يضمنه مؤلفه إلا من رحل من أجل حديث واحد فحسب ، فكم نسعد حين ترتفع همم شبابنا إلى تلك الهمم ، فيجعلوا من هذه الإجازة فرصة للتعويض عما فاتهم من أعمال صالحة بسبب الدراسة أو العمل .
ولا بأس في اصطحاب الأهل في بعض الأحيان في نزهة برية، أو رحلة داخلية أو عمرة إلى بيت الله مع الاستفادة بقدر الجهد والطاقة من هذه الرحلات بالتوجيه السليم والمسابقات النافعة والتفكر في أرض الله وسمائه ومخلوقاته وعجائب صنعه سبحانه قال تعالى { ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك }.

كن أول من يقيم الموضوع
12345