• قضايا إسلامية معاصرة
  • 938
  • 9-8-2008
  • الشيخ سعد البريك
  • من أخص خصائص هذه الأمة أنها أمة واحدة ، قال عز وجل{وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ}.
    وإن مما ابتليت به وفتك في سواعدها ، وفت في عضدها ، وأوهن قواها وأنهك طاقاتها ؛ اختلافُها وتفرُّقُها وانقسامُ المسلمين إلى شيع وأحزاب كل حزب بما لديهم فرحون وبات حال المسلمين في كثير من أقطار العالم الإسلامي كما قال الشاعر :
    تركوا هداية ربهم، فإذا بهم غرقى من الآراء في طوفان
    وتفرقوا شــيعاً بها نهجهم من أجلها صاروا إلى شنآن
    تفرقت الأمة واختلفت وتنازعت، وأصبحت شيعًا ودولاً وقوميات، والدول أصبحت أحزابًا، والأحزاب أصبحت أجنحة : حمائم وصقور، وحرساً قديماً وجيلاً جديداً، ويمين ويسار ، فكانت النتيجة ما نراه اليوم من تداعي الأمم على قصعة المسلمين وثرواتهم وبلدانهم .
    إن اجتماع المسلمين ووحدة كلمتهم والتئام صفوفهم أصل عظيم من أصول الدين وقاعدة جليلة من قواعد الشريعة {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.
    عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، ثم شبك بين أصابعه". متفق عليه.
    وصفهم بالبنيان لتراصه وقوته واجتماعه ، وأكد هذا الوصف بتشبيك أصابعه .
    تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسـرت آحـادا
    وكما وصفهم أيضاً باجتماعهم واتحادهم كالجسد الواحد ، إذا اشتكى له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وهل هناك أعظم من هذت الوصف لأمة متراحمة متناصرة فيما بينها يشبه حالها حال الجسد الواحد يتأذى بعضه لمصاب بعض سواء في أطرافه أو داخله .
    قال القرطبي رحمه الله : ( فواجب على الناس التعاون ، فالعالم يعين بعلمه والغني بماله والشجاع بشجاعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة ، فالمؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ) . (التفسير 6 / 47 ) .
    وكان صلى الله عليه وسلم يعظم من شأن الاجتماع والوحدة ، لأن هذا من أعظم أسباب النصر، كما أن التنازع والاختلاف من أعظم أسباب الهزيمة والفشل . ففي يوم عصى الرماة أميرهم واختلفوا وتنازعوا كما قال تعالى {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } فكان الدرس قاسيًا ؛ دارت الدائرة على المسلمين ، وشُجَّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكُسِرَت رباعيته ؛ بسبب مخالفة مجموعة من الجنود لأوامر القائد.
    وبين القرآن حال الصحابة في جاهليتهم حين كانوا متفرِّقين مختلفين، ومثَّلهم بقوم أشرفوا على هوَّةٍ ملتهبة، لولا أن تداركهم الله برحمته فمن عليهم بنعمة الألفة والمحبة { ... وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} .
    وقال تعالى { وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
    * سلك القرآن والسنة أساليب متنوعة في الحث على الوحدة والاجتماع :
    ـــ فتارة تأمر بالوحدة أمراً صريحاً كما في قول الله عز وجل: { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حبل الله : الجماعة) .
    وفي صحيح مسلم ٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ".
    ـــ وتارة تأمر بما يحقق هذه الوحدة ويحافظ عليها كما في قوله تعالى { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وقوله جل وعلا { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } .
    فإصلاح ذات البين من أعظم ما يعين على التوحد والألفة .
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟". قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " إصلاحُ ذاتِ البيْن، فإنَّ فسادَ ذاتِ البيْن هي الحالقة ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" دَبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسدُ والبغضاءُ، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشَّعْر، ولكن تحلق الدِّين ".
    وعن أَنَسُ بْنُ مَالِك رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ". رواه الإمام أحمد،وأصله في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
    ــــ ومن أساليب القرآن والسنة في الحث على اجتماع الكلمة : النهي الصريح عن الافتراق والاختلاف ، قال تعالى { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} .
    قال الطبري: { يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا أيها المؤمنون ربكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه ولا تخالفوهما في شيء، ولا تنازعوا فتفشلوا، يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا، يقول: فتضعفوا وتجبنوا وتذهب ريحكم ) . ( تفسير الطبري 10/15).
    وعن زَكَرِيَّا بْنَ سَلَّامٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: " عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ ".
    وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب". حسن كما في صحيح الجامع.
    وجعل تعالى الفرقة من أسباب الهلاك فقال عز وجل {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كـَـيْـفَ نُـصَـرِّفُ الآيَاتِ لَـعَـلَّـهُـمْ يَفْقَهُونَ}.
    وبين صلى الله عليه وسلم أن الفرقة والتناحر من أسباب رفع الرحمة من الأرض . روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: "خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة".
    وبلغ من حرصه صلى الله عليه وسلم على الوحدة والاجتماع أن أمر الثلاثة إذا سافروا بأن يكون لهم أمير ، أخرج أبو داود بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم " فإذا كان صلى الله عليه وسلم أمر بتأمير واحد في الاجتماع القليل العارض الذي يكون في السفر فكيف بما هو أعظم وأكثر .
    ونهى صلى الله عليه وسلم أن يهجر المسلم أخاه المسلم، وأمر بإفشاء المسلمين بينهم لإشاعة المحبة .
    وأمر بصلاة الجماعة ولم يعذر أحداً في التخلف عنها إلا لعذر .
    بل كان صلى الله عليه وسلم يحرص على الاجتماع والتآلف، حتَّى في أدق الأمور، قال ابن مسعود رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم. ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثمّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ". رواه مسلم .
    وروى أبو داود بسند صحيح عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرَّقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ تفرُّقكم في هذه الشعاب والأودية إنَّما ذلكم من الشيطان ". فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلاَّ انضمَّ بعضهم إلى بعض، حتَّى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمَّهم.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( سنَّ صلى الله عليه وسلم الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية لما في التفريق من خوف تفرق القلوب وتشتت الهمم ، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضدّ ذلك في جميع التصرفات لا يكاد ينضبط ، وكل ذلك شرعٌ لوسائل الألفة وزجر عن ذرائع الفرقة ) . أ . هــ . ( بيان الدليل على بطلان التحليل 371) .
    إن التاريخ يشهد أن من أهم أسباب سقوط الدول التفرق والاختلاف ، سقطت الخلافة العباسية بعد أن تفرقت إلى دويلات إسلامية ، فنشأت الدولة البويهية، ودولة المماليك، ودويلات الشام ، ولم يبق للخلافة العباسية إلا مزع متفرقة متناثرة من العالم الإسلامي ، فلما زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غير أهل بغداد فقط، فأعملوا فيهم القتل.
    وسقطت الدولة الإسلامية في الأندلس بعد أن أصبحت دويلات متفرقة متناحرة، لا همّ لأحدهم سوى التلقب بألقاب الملك والسلطان حتى ولو كان على بقعة لا تجاوز حظيرة خراف.
    مما يزهدني في أرض أندلس أسمــاء معتضـد فيها ومعتمد
    ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
    ولم تسقط الدولة العثمانية إلا بعد أن تمزق جسدها إلى أشلاءَ متناثرة، وبعد أغرى الاستعمار بعض زعماء المسلمين بالانفصال عنها، وعملوا بقاعدة: فرِّق تسُد.
    إن ما ظفر به أعداء الأمة من سيطرة عليها وعلى مقدراتها وثرواتها واحتلال لبعض أقطارها لا يرجع إلى أنهم أقوياء بقدر ما يعود إلى آثار الوهن في صفوف أصحاب الحق، فالفرقة تجعل هلاك الأمة بيد أبنائها .
    ألم تر أن جمع القوم يخشى وأن حريم واحدهم مبـاح
    فالعالم الإسلامي بتفرقه وتنازعه لا يخيف أحداً، لكن الغرب يخشى أن يتحد المسلمون فينهضوا ويعودوا إلى عزهم .قال تعالى { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا }. قال قتادة : ( الحسنة هي الألفة والجماعة، والسيئة: الفرقة والاختلاف ).
    * ما يعين على اجتماع الكلمة :
    ـــ لزوم الجماعة : جاءت أدلة الكتاب والسنة متواترة في وجوب لزوم جماعة المسلمين والنهي عن الفرقة والاختلاف. قال تعالى { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
    وقال صلى الله عليه وسلم :" عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفرقة" . رواه أحمد الترمذيّ.
    وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فعليك بالجماعة، فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية". رواه أبو داود والنَّسائي والحاكم، وقال: هذا حديثٌ صدوقٌ رواتُه.
    وفي حديث حذيفة بن اليمان المعروف في الصحيحين: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني"، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :" تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " ، وقد عَنْوَن الإمام مسلم باب الحديث بـ: "باب: وجوب ملازمة الإمام عند ظهور الفتن، وفي كلِّ حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة".
    إن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يرون الجماعة والائتلاف وينهون عن الفرقة والاختلاف ، عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فمن أحب منكم أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد ". وإسناده جيد .
    إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دان
    كم يرفع الله بالسلطان مظلمة في ديننا رحمة منه ودنيانا
    لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل وكان أضعفنا نهباً لأقوانا
    وكان السلف يُعظّمون من شأن الجماعة . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة ) .
    وقال أبو عمرو الأوزاعي رحمه الله : ( كان يقال : خمسٌ كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان: لزوم الجماعة واتباع السنة وعمارة المساجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله) أ.هـ .
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه ، ونتيجة الفرقة ؛ عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول منهم ) .
    مفارقة الجماعة تسبب فساداً كبيراً وشراً عظيماً : يختل الأمن وتضيع الحقوق ويروع الآمن وتنتهك الحرمات والأعراض وتختل السبل وتقطع الطرق.
    وخير شاهد على هذا ما تعيشه بعض الدول المجاورة وإن كانت الشواهد قائمة منذ الصدر الأول في الإسلام عندما سنّ الخوارج شق عصا الطاعة والخروج على ولاة امر المسلمين في عهد الخليفتين الراشدين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وما بعدهما إلى هذا الزمان.
    ومن لزوم الجماعة طاعة ولاة الأمر :
    قال صلى الله عليه وسلم :" من رأى من أميره شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة، فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية".
    وقال صلى الله عليه وسلم : " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، في اليسر والعسر، في المنشط والمكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
    قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه :" بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ". رواه البخاري ومسلم .
    وقال صلى الله عليه وسلم : " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". رواه البخاري .
    وقال صلى الله عليه وسلم :" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني". متفق عليه.
    وقال صلى الله عليه وسلم :" من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ". رواه مسلم.
    ومن مقتضى البيعة النصح لولي الأمر، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل والبطانة، فمن أسباب صلاح الوالي ومن أسباب توفيق الله له أن يكون له وزير صدق يعينه على الخير ويذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم :" إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكّره، وإن ذكر لم يعنه". رواه أبو داود على شرط مسلم.
    قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله : ( لا يجوز منازعة ولاة الأمور ولا الخروج عليهم إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان، وما ذاك إلا لأن الخروج على ولاة الأمور يسبب فساداً كبيراً وشراً عظيماً فيختل به الأمن وتضيع الحقوق ولا يتيسر ردع الظالم ولا نصر المظلوم وتختل السبل ولا تأمن، فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر عظيم، إلا إذا رأى المسلمون كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة، أما إذا لم يكن لديهم قدرة فلا يخرجون، أو كان الخروج يسبب شراً أكثر فليس لهم ا لخروج رعاية لمصالح العامة، والقاعدة الشرعية المجمع عليها أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه، أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين.فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفراً بواحاً ويكون عندها قدرة تزيله وتضع إماماً صالحاً طيباً من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين وشر أعظم من شر هذا السلطان فلا بأس، أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس واغتيال من لا يستحق الاغتيال إلى غير هذا من الفساد العظيم ، فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة الأمر والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله، وتكثير الخير، هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يسلك، لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شر أكثر ) .


    ـــ ومما يعين على اجتماع الكلمة : الحذر من أن يؤدي الاختلاف إلى جفوة وفتنة بين المختلفين ، يقول شيخ الإسلام: ( كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة).( مجموع الفتاوى: 4/172–173).
    وقال يونس الصدفي : ( ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ).قال الذهبي:(هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون). (السير 10/16-17) .
    قال محمد بن أحمد الفنجار: ( كان لابن سلام مصنفات في كل باب من العلم، وكان بينه وبين أبي حفص أحمد بن حفص الفقيه مودة وأخوة مع تخالفهما في المذهب ) . (السير 10/630).
    ـــ ومما يعين على اجتماع الكلمة : عدم الإنكار على المخالف ما دام الخلاف سائغاً ، لكن هذا لا يمنع من أن تبين له الحق الذي تعتقده . إذ مازال السلف يرد بعضهم على بعض في مسائل الفقه والفروع من المعتقد، وهذا من النصيحة للمسلمين.
    عن أنس رضي الله عنه قال: (إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) . رواه البيهقي في السنن .
    وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ . ومقصدهم في ذلك الإنكار المؤدي إلى الفرقة ، لا مجرد التنبيه وإقامة الدليل على صحة ما يعتقده الإنسان، وإلا انسد كثير من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    يقول سفيان: ( إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه ). (الفقيه والمتفقه 2/69).
    وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: (ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به). ( المصدر السابق 2/69).
    ويقول ابن مفلح: ( لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع). (الآداب الشرعية 1/186).
    قال النووي : ( ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً) . (شرح النووي على صحيح مسلم 2/24).
    ويقول ابن تيمية:(مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه). (مجموع الفتاوى20/207) .
    وسئل القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر به فقال: ( إن قرأت فلك في رجال من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة). (التمهيد، لابن عبد البر 11/54).
    وعبر الفقهاء عن هذا بقاعدتهم التي تقول: ( الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد). (الأشباه والنظائر، لابن نجيم 105).
    ــ ومما يعبن على اجتماع الكلمة : البعد عن المراء والجدال والمهاترات والتراشقات . قال صلى الله عليه وسلم :" ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه ، إلا أوتوا الجدل ".
    ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الجدال والمراء فقال صلى الله عليه وسلم :" من ترك المراء وهو مبطل، بنى الله له بيتاً في ربى الجنة ، ومن تركه وهو محق ، بنى الله له بيتاً في وسطها ، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها ". رواه الترمذي وحسنه. وصححه الألباني رحمه الله.
    فالمراء والجدل ليسا من سمت أهل الإسلام ولا من هديهم. قال الحسن رحمه الله : ( ما رأينا فقيهاً يماري ) . وقال أيضاً : ( المؤمن يداري ولا يماري ، ينشر حكمة الله فإن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله ) . وقال محمد بن الحسين : ( وعند الحكماء أن المراء أكثره يغير قلوب الإخوان ويورث التفرقة بعد الألفة والوحشة بعد الأنس ) .
    * هل وقوع الخلاف يعد مبرراً للفرقة والتنازع ؟.
    الخلاف نوعان منه ما هو مذموم ، كالخلاف الذي يكون بين المنتسبين للإسلام في أصول العقيدة كخلاف الخوارج والرافضة والمعتزلة والقرآنيين وغيرهم ، وهذا النوع هو الذي يؤدي إلى فرقة الأمة وتشرذمها ، وجاءت النصوص القرآنية والنبوية في التحذير منه. كما مر معنا.
    وهناك الخلاف السائغ ، في فروع العقيدة والفقه. ومنه خلاف المذاهب الفقهية، وخلاف الدعاة على بعض الوسائل الحديثة للدعوة، وكذلك فروع العقيدة كرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج ، وكنه المعراج ، هل هو بالروح أم بالجسد.
    ولأن هذا الخلاف مما يسوغ ، فإنه لم يكن يوماً سبباً لشر أو فرقة أو تشرذم أو تنافر.ولذا يجب التفريق بين هذا النوع من الاختلاف السائغ وبين غيره من أنواع الاختلاف المذمومة .
    - فالاختلاف السائغ لا يكون في المسائل الأصولية في الدين، العقدية منها والفقهية، كالتوحيد وأصول الإيمان، وحجية السنة، وفرضية الصلاة أو فرضية الوضوء للصلاة ووجوب الصوم والحج وعدد ركعات الصلاة . فمثل هذه المسائل تضافرت الأدلة الصحيحة الصريحة في الكتاب والسنة على إثباتها.
    ــــ الاختلاف السائغ لا يكون في المسائل التي انعقد الإجماع فيها يقول ابن تيمية: (إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق فإن الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب . فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل (الذي طلب من أهله إحراقه إذا مات) فيغفر خطأه ، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه ) أ . هـــ . (الاستقامة 1/163).
    ويقول رحمه الله أيضاً : ( من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع ) . (الفتاوى: 4/172–173).
    ويقول الذهبي: ( ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور).(السير 19/322).
    ــــ ومن علامات الاختلاف السائغ : أن يكون القول صادراً عن اجتهاد ونظر في الأدلة الشرعية المعتبرة بقصد الوصول إلى الحق الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . قال الشاطبي: ( الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان، أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه.والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي .فكل رأي صادر عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضد الحق ... ) . (الموافقات:4/167).
    * ما هو الموقف الصحيح ممن اختلفنا معهم اختلافاً سائغاً ؟.
    يقول سماحة العلامة ابن عثيمين رحمه الله : ( موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين :
    الأول : كيف خالف الأئمة لما يقتضيه الكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا يمكن أن يُعرَف الجواب عنه بمعرفة أسباب الخلاف.
    الثاني : ما هو موقفنا من اتباعهم ؟. ومن يتبع الإنسان من هؤلاء؟. أيتبع إماماً لا يخرج عن قوله ، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب ، أم يتبع ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لمن ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة ؟.
    الجواب هو الثاني . فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من الأئمة ، إذا لم يخالف إجماع الأمة ، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان ، فقد شهد لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم بخصائص الرسالة ، لأنه لا يمكن أحداً أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم )أ.هـ.( من رسالة : الخلاف بين العلماء ، أسبابه وموقفنا منه . 24 ــ 26 بتصرف يسير ) .
    * ماذا بعد الخلاف ؟.
    إذا وقع الخلاف في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف ، فإن الواجب الشرعي هو:
    1ـــ إعذار المخالف وإحسان الظن به وأنه يتحرى الحق ويريده .
    2ـــ المحافظة على رباط الأخوة : قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه ، وهجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، ولا ابن مندة ، ولا من هو أكبر منهما والله هو هادي الخلق إلى الحق ، وهو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ).( السير 14/40) .
    3 ــــ لا تحمل الآخرين على رأيك . فهذا لا يجوز حتى للعالم مجتهد.
    قال أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: ( لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم ). ( الآداب الشرعية 1/186).
    قال شيخ الإسلام : ( فكما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، لا يجوز للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل، ولهذا لما استشير مالك أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منع من ذلك . وقال : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار ، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم ، وصنف رجل كتاباً في الاختلاف ، فقال أحمد : لا تسمه كتاب الاختلاف ، ولكن سمه كتاب السعة . ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة ، واختلافهم رحمة واسعة ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول : ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً ، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة ، وكذلك قال غير مالك من الأئمة ، ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه . ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي رحمه الله وغيره : إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد ، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية ، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه ) .( الفتاوى الكبرى 79/30- 81) .
    * ــ صور من اختلاف السلف رحمهم الله تبرز أدبهم العظيم في هذا الباب:
    اختلافهم في مكان دفنه صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو بكر رضي الله عنه سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نسيته قال :" ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه ". رواه الترمذي وحسنه الألباني .
    اختلافهم في الخلافة بعده صلى الله عليه وسلم ، وقصة سقيفة بني ساعدة مشهورة معلومة ، وكامن من مظاهر اختلافهم أن قالوا : منا أمير ومنكم أمير . وقال آخرون : نحن الأمراء وأنتم الوزراء حتى قام عمر رضي الله عنه فبايع أبا بكر وتوالت البيعة وكان الرضوخ من الجميع لمصلحة الأمة .
    ـــــ اختلف عمر رضي الله عنه مع أبي بكر رضي الله عنه في حرب أهل الردة ، ولا زال يراجعه بأدب ورفق وأبو بكر يرد عليه من غير تثريب ، حتى شرح الله صدر عمر رضي الله عنه لقول أبي بكر رضي الله عنه . والقصة معلومة مشهورة .
    اختلف أبو بكر وعمر في سبي نساء أهل الردة، فسباهن أبو بكر ، وكان عمر لا يرى ذلك .
    - اختلف ابن مسعود وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في كثير من المسائل ، حتى أوصلها ابن القيم إلى نحو مائة مسألة منها:
    أن ابن مسعود رضي الله عنه كان ينهى عن وضع اليدين على الركب في الركوع ويأمر بالإطباق ، وخالفه عمر رضي الله عنه .
    اختلفا فيمن زنا بامرأة ثم تزوجها فيرى ابن مسعود رضي الله عنه أنهما لا زالا يزنيان حتى ينفصلا ، وخالفه عمر رضي الله عنه . (إعلام الموقعين 2/237).
    وبرغم ذلك كانا يثنيان على بعضهما. يقول عمر رضي الله عنه عن ابن مسعود رضي الله عنه : (كنيف ملئ فقهاً أو علماً آثرتُ به أهل القادسية).(السير 1/491). ويقول ابن مسعود رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه : (كان للإسلام حصناً حصيناً يدخل الناس فيه ولا يخرجون، فلما أصيب عمر انثلم الحصن) . رواه الحاكم في المستدرك .
    وبالجملة فقد اختلف الصحابة ومن بعدهم من التابعين في كثير من المسائل : فمنهم من كان يجهر بالبسملة في الصلاة ومنهم من لا يرى ذلك ، ومنهم من كان يتوضأ من الرعاف والقيء والحجامة ومن من لا يرى ذلك ، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل أو مما مسته النار ومنهم من يرى رأيه لعدم بلوغ الدليل . ولم يكن هذا الاختلاف مبرراً للطعن والتثريب والتفسيق والعداوة والبغضاء فيما بينهم .
    - بل حينما وقع بين الصحابة خلاف أدى بهم إلى الاقتتال ، فإن هذا الخلاف لم يكن مبرراً للشقاق والتفرقة ، بل كان مليئاً بالصور المشرقة والمعاني محمودة . منها:
    - خلو قلوبهم من الغل، ومنه قول مروان بن الحكم (ما رأيت أحداً أكرم غلبة من علي رضي الله عنه ، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل وناد منادٍ: ولا يذفف (يجهز) على جريح . رواه البيهقي في السنن .
    - نال أحدهم من عائشة رضي الله عنها يوم الجمل وسمعه عمار رضي الله عنه ــ وكان في معسكر علي رضي الله عنه فقال: ( اسكت مقبوحاً منبوحاً، أتؤذي محبوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أشهد أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة) . رواه الترمذي.
    - لما قتل ابن خيري رجلاً وجده مع زوجته، رفع الأمر إلى معاوية رضي الله عنه فأشكل ذلك عليه فكتب إلى أبي موسى رضي الله عنه أن يسأل له علياً رضي الله عنه فكتب إليه علي بالجواب. وكان هذا بعد وقعة الجمل.أخرجه مالك في الموطأ .
    - ولما وصف ضرار بن حمزة الكناني علياً رضي الله عنه بين يدي معاوية رضي الله عنه : بكى معاوية وجعل ينشف دموعه بكمه، ويقول لمادح علي رضي الله عنه : كذا كان أبو الحسن رحمه الله. ( انظر الاستيعاب 4/1697).
    - الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث معروف . يقول شعبة ـــ وهو من أهل الحديث ـــ عند وفاة أبي حنيفة ـــ وكان من أهل الرأي ـــ : (لقد ذهب معه فقه الكوفة، تفضل الله عليه وعلينا برحمته). ( السير 6/403 ) .
    صلى الشافعي الصبح في مسجد أبي حنيفة ــ وكان يرى القنوت في صلاة الصبح ، ويرى الجهل بالبسملة ـــ فلم يقنت ولم يجهر ببسم الله تأدباً مع أبي حنيفة رحمهما الله . (طبقات الحنفية 1/433).
    قال القرطبي: ( كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً . وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد) رغم أنه يرى أن خروج الدم بحجامة أو غيرها ينقض الوضوء.(الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 23/375).
    ــــ يقول الإمام أحمد بن حنبل: ( لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً ) . (سير أعلام النبلاء 11/371 ).
    وقال: ( ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ) . (سير أعلام النبلاء 14/40).
    ويقول الذهبي في تعليقه على اختلاف الناس في أبي حامد الغزالي بين مادح وذام: ( مازال العلماء يختلفون ويتكلم العالم في العالم باجتهاده، وكل منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور، وإلى الله ترجع الأمور ) . (سير أعلام 19/322 ).

    كن أول من يقيم الموضوع
    12345