• قضايا إسلامية معاصرة
  • 937
  • 9-8-2008
  • د. علي بن عمر بادحدح
  • وأول ما نبدأ به من الحديث ما يتعلق بالصياد، ووصفه، وكيف يكون ماهراً، ثم شأننا وهذا الصياد ، ثم بعد ذلك حينما نربط أمرنا، نمضي قدما لننتفع بما نحتاج في أمر مهم من أمور حياتنا، وفي مهمة عظيمة من المهمات المنوطة بنا ، والتي لا بد لنا أن نعرفها ، وأن يتبصر بها كل أحد ، وهي أن يعرف الجميع كيف يكون الصياد ماهراً.
    ونعني أولا بالصياد: المحترف الذي يكتسب من هذه الصنعة، والذي يتفرغ لها، ويبرع فيها، وينتج منها، وليس هو ذلك عابر السبيل، الذي ربما اقتنص طيراً وكيفما اتفق معه الحال، فأما الماهر فهذا الذي نعنيه.
    أولا: ما علم الناس ولا يعرفون صياداً يصيد وهو قابع في قعر داره .. وهو جالس في بيته، وإنما لا بد له أن يخرج إلى مكان الصيد حتى يصطاد،
    وثانياً: أنه لا يمكن أن يخرج غفلاً من عدته ، ليس معه إلا يدين خاويتين، بل لا بد له من عدة يأخذها معه حتى يصطاد بها، ونحن نعرف أيضا أنه يحتاج إلى تفقد عدته ليطمئن إلى صلاحيتها للصيد، من بعد ذلك فإننا نعرف أنه يختار لكل نوع عدته التي تخصه، فهو يعد الشباك لصيد البحر، والسهام لصيد البر، والبندقية لصيد الطير، وكل عدة لا تنفع إلا لصيد معين. فهو إذا لا بد أن يحدد العدة لحسب الصيد الذي ينطلق إليه ويرغب فيه.
    وكذلك نعلم أنه كلما هيأ عدته وكثر أسبابها ؛ فإن ذلك يعود عليه بغنيمة أوفر في الصيد، فالذي عنده شبكة صغيرة لا يصيد مثل الذي عنده شبكة كبيرة، والذي عنده ذخيرة قليلة لا يصيد مثل الذي عنده ذخيرة طويلة - ولاشك - في أن للعدة وتهيئتها أثر بالغ في عظم الصيد وكثرته.

    ثم نمضي مع هذا الصياد بعد أن هيأ عدته وكثرها وجعلها مناسبة لصيده ، ثم خرج من داره ؛ فإنه قطعاً- ولا شك - سينطلق لمكان مناسب يخرج منه ويرجع إليه بصيد واحد، فلن يذهب - مثلا - إلى المياه الضحلة التي ليست فيها سمك ، ولن يذهب إلى أرض فضاء ليست فيها طير، لأنه حينئذ لن يكون صياداً ماهراً! بل لن يكون صياداً بالكلية، فعليه إذاً أن يختار المكان المناسب ، وهذا المكان هو الذي تتوفر فيه أعداد كثيرة مما سوف يصيد ، وتتوفر فيه أسباب من النجاح وفيرة ، ثم إذا وصل إلى ذلك المكان لا شك أنه يحتاج:
    أولا: أن يفحص المنطقة ، وأن يدرس الموقع دراسة جيدة ، حتى يحدد لنفسه المكان المناسب الذي يتهيأ فيه لصيده ، فإذا كان الأمر يحتاج إلى تخفٍ تخفى عن الوحوش التي تشكل خطراً عليه ، وكذلك من الغزلان التي بمجرد رؤيته تفر منه، وإذا كان الأمر يحتاج إلى مكانٍ رحبٍ لينطلق ويعدو - فلا شك - أنه سيختار ذلك الموقع ، فإذاً مجرد وصوله إليه لا يكفي ذلك ، بل يحتاج إلى دراسة ذلك الموقع وتفحصه، ومن بعد ذلك يتفاعل معه الموقع ، ويقرر المكمن الذي يكمن فيه لصيـده. ثم نرى الصياد من بعد ذلك متربصاً كامناً، متحلياً بالصبر موصوفاً بطول النَفَس، لا يكمن فقط خمس دقائق ، إن وجد صيداً وإلا رجع . هذا إذا كان هاوياً .. نعم ! أما إذا كان ذلك الصيد مصدر رزقه ؛ فإنه- لا شك - سوف يمكث مهما طال الزمن ، ومهما امتد الوقت، ومن بعد ذلك نجده إذا ظفر بصيد يجتهد اجتهاداً كبيراً في إصابته، ولا يتعجل ويرمي طلقته كيفما اتفق، بل يتهيأ، فيضبط شبكته ويضبط منظار بندقيته ، لماذا ؟
    لأنه إذا اخطأ في الضربة الأولى التي يقتنص منها، فحينئذ يوفر على نفسه ووقته، ويوفر عدته، ويوفر جهده ، فإذا به يحرص كل الحرص على عدم تنفير الصيد وهذه حاسة مهمة، فالصياد تراه يسير على أطراف قدميه ، ويتوقى إحداث أصوات تنفر الصيد، بل هو يبالغ في الإحسان في الطعم الذي يقدمه حتى لا ينفر منه الصيد ، وهذه سمة أساسية في الصياد ، أما إن تحرك حركة طائشة ؛ فإنه ينفر صيده ، وإذا استخدم طعاماً فاسداً كذلك ينفر صيده ، وهذا لا يكون بحال ماهراً ولا صياداً، ثم إننا نجد بعد ذلك أن طويل النفــس لا يدبّ إلى نفسه اليأس، بل إذا فاته الصيد كمن مره أخرى ، وإذا كان الموقع غير مناسب، انتقل إلى غيره ، لماذا؟
    لأنه لا بد له من الصيد، فهولا يستغني عن الموقع لأنه مصدر رزقه.

    ثم أيضا نجده لا ينصرف عن مهمته لعوارض أخرى، فلا يصرفه مثلا: جمال المنظر في البحر، وزرقته ، والشمس ولون غروبها ، فيتأمل في ذلك المنظر الجميل، ويضع بندقيته بجانب خضرة الأشجار، وخرير المياه، إن فعل ذلك فهو- بلا شك - قد توجه وجهة أخرى، ونسي المهمة التي خرج لأجلها، وبالتالي فهو قطعاً سيضيع الثمرة التي خرج ليقطفها، وآخر الأمر، فإننا نجد ذلك الصياد إذا وفر بصيده انتفع به من كل الوجوه ، فإذا بلحمه يؤكل ، وإذا بجلده يدبغ ليباع أو لينتفع به انتفاعاً كاملاً .
    هذه صورة لهذا الصياد فما صلتنا به، وهل سنتحدث عن صيد اللؤلؤ، أو عن صيد السمك، أو عن صيد الطيور، أو عن أي صيد مما يصاد ؟
    ليس ذلك مقصدنا وغايتنا، وإنما هي المقدمة والتوطئة لما نريد أن ننبه عليه ، وأن نتأمل فيه ، ونربط الربط الذي ينقلنا إلى قلب الموضوع ولبّه.
    وسنمضي مع بعض أقوال عبد القادر الجيلاني - وهو يبين لنا صفات المسلم الكامل الزاهد البصير - فيقول لنا في وصفه: " الزاهد الكامل في زهده لا يبالي في الخلق، لا يهرب منهم بل يطلبهم " ويقول: " المبتدئ يهرب من الفساق والعصاة، والمنتهي يطلبه ، كيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده " ثم يأتي إلى موقع الذي سينقلنا إلى ربط بين القضيتين، فيقول: " من كملت معرفته لله - عز وجل - صار دالاً عليه، ويصيّر الشبكة ويصطاد بها الخلق من بحر الدنيا " .

    هذا حديثنا عنك أيها العالم .. عنك أيها الداعية .. عنك أيها الواعـظ الذي تكلم العلماء في أنك تكون كما قال بعضهم: يصطادون الخلق بشباك الحق، فأنت صياد لكنك تصيد الناس من الفسق إلى الطاعة ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن الغفلة إلى التذكّر.
    فهذه هي مهمتك في هذه الحياة ، ولا يمكن أو لا نرضى لك إلا أن تكون صياداً ماهراً، وكما سرنا مع ذلك الصياد في وصفه ، ورأينا كيف تحققت له صفة المهارة ، ويكفي أن يحظى في آخر الأمر بالثمرة التي يرجوها.
    وكذلك نمضي معك فأنت الصياد صاحب المنهج ، وأنت تسير على ذات الخطى التي أخذ بها ذلك الصياد الـذي أسلفنا ذكره.

    فضل الدعوة
    وغني عن القول أننا لا نحتاج إلى إفاضة عن فضل ذلك الصيد - يعني فضل الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى- وهذا أمر يطول الحديث فيه، وحسبنا منه تذكره، لأننا لسنا في مقام الإفاضة فيـه والله - جل وعلا - يثني على هؤلاء الدعاة الذين يتهيئون لصيد الخلق إلى حياض الحق فيقول - سبحانه وتعالى - : { ومـن أحسـن قـولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}، فتلك مرتبة عالية يبينها النبي - صلّى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما في البخاري: ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )، وكذلك بينها لنا حديث ابن مسعود عند مسلم: ( من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله)، فيدفعك ذلك إلى أن تعرف هذا الأمر، وأن تعرف كذلك عظمة الثواب الذي يتصل فلا ينقطع، ويدوم في الحياة وبعد الممات، كما في حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - في الصحيح عن النبي - صلّى الله عليه وسلم - : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث .... ) و ذكر منها : (علم ينتفع به). وهذا العلم هو ذلك التوريث للدعوة والسيرة الحسنة ، والقدوة الكاملة.

    الحرص على الدعوة

    فالذي تكون المسالة بالنسبة له هواية عارضة، أو قضية ثانوية، أو عملا يشغل به فضول أوقاته ، فهذا قطعاً ليس هو الذي نركز عليه في حديثنا، وليس هو الذي يعبر عنه قول الله - سبحانه وتعالى-: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } ، أو ذلك الذي أمضى كل عمره وهو في هذا الشأن، وهذا الطريق متمثلا قول الله :{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } .
    ولكن الذي نعنيه هنا ، هو ذلك المسلم الذي يرى الدعوة مهمته ، ويعلم وجوب الدعوة لنصوص كثير متضافرة .
    وتأمل ذلك الحرص الفريد العجيب، الذي مثله لنا رسولنا – صلى الله عليه وسلم - حينما جعل مهمته وغايته في الحياة هي هداية الناس ودعوتهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى، حتى خاطبه القران من شدة حرصه، فقال - جل وعلا- : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }، وقال : { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين } وقال : { ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون } وذكر من حالته - عليه الصلاة والسلام- : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } أي لعلك مرهقاً نفسك ، ومتلفاً جسدك ، وأنت تبتغ القوم ، وتمضي في أثرهم ، وهم يعرضون عنك ، تريد لهم الخير وهم يبتعدون عنك .
    و هذا الحرص من منطلق الفهم الصحيح لعظمة الرسالة ولخيرتها ، فالذي يعرف هذا الخير، ينبغـي أن تكون نفسه بتأثرها بذلك الخير تحب الخير للآخرين ، كما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

    والنفس التي ترى النور تأسى وتحزن على الذين يعيشون في الظلام يتخبطون فيه ، ويقعون في المنزلقات مرة بعد مرة ، و لذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام -:( ‏إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ‏‏ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في ‏النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه ،فيقتحمن فيها ،‏ فأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وهم يقتحمون فيها ).
    فإذا لا بد أن تعرف أنه لا بد لك أن تكون حريصاً غاية الحرص على هداية الخلق ، وأن تعرف أن هذه المهمة واجبة وأن هذه الرسالة عظيمة وأنه يبتغي أن يستفرغ لها الجهد، والفكر، حتى تؤتي ثمارها كما كان على ذلك الرسول - عليه الصلاة والسلام .

    فهم السلف لأهمية الدعوة

    ذكرنا أن الصياد لا يقبع في بيته بل يخرج ويتجه إلى الصيد .
    وتأمل، هذه المقولات وهذه الأمثلة، التي تنفي عن جلوسك في بيتك وقعودك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأخرك عن إرشاد الخلق، وخروجك إليهم لتبصرهم بما هم عليه من الخطأ وما يقعون فيه من الزلل، فهذا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه - أحد المبشرين بالجنة- يقول: " إن أقل العيب على المرء أن يجلس في داره " وما أقوى هذه الكلمة،وما فيها قوة وشدة،.
    ثم استمع إلى عطاء بن أبى رباح وهو يقول: " لئن أرى في بيتي شيطانا خير من أرى وسادة لأنها تدعو إلى النوم " .
    فانظر إلى فقه القوم كيف دفعوا الكسل، وكيف أرادوا ألا تركن أنفسهم إلى الدنيا؟ وألا يظلوا منكمشين عن الناس، يحبسون العلم في صدورهم، و الحكمة في ألسنتهم، ما كان ذلك دأبهم ، بل كان أحدهم يرى أن وسادة النوم -التي تدعو إلى الكسل وإلى التثاقل وإلى عدم الخروج للدعوة - كان يراها أشد عليه من الشيطان الذي يخطر بينه وبين نفسه.
    ثم تأمل أيضا تلك المقالة من أبي حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - وهو يقول : " اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم، وحملهم على المعروف، ما دمت قاعداً في بيتك فلا بد أن يلحقك نوع قصور، وبعض إثم، لأنك ما خرجت لتعريف الناس، ثم من بعد ذلك تعرف حالهم ، وتصحح نهجهم ، وتمضي من بعد ذلك مع فعل النبي - عليه الصلاة والسلام - منذ أن بزغ نور الإسلام في أول صلة بين الأرض والسماء من قول : { اقرأ } الأولى التي نزل بها جبريل - عليه السلام - على النبي - عليه الصلاة والسلام- ثم جاءت {أنذر عشيرتك الأقربين } وجاء من قبلها: { يا أيها المدثر * قم فأنذر } .
    و ما يقوم القاعد، وما يقوم النائم ، وما يقوم الذي لا يفارق داره ، ولا يخرج من بلده ، فذلك ما قام للإنذار، ولا تحرك للدعوة والرسول - عليه الصلاة والسلام - حينما نزل قول الله - عز وجل -: { وأنذر عشيرتك الأقربين }، خرج من بيته ورقى على الصفا، وجعل ينادي الناس: يا بني فهر، يا بني عبد مناف، يا بني عدي، وجعل ينادي قريشا بطنا بطنا، ثم يقول لهم عليه الصلاة والسلام: ( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي، قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب اليـم، فقـال أبـو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا ؟!! ،
    وعند احمد عن رجل من بني مالك من بني كنانة، قال: رأيت الرسول – صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز يتخللها، فيقول:( يا أيها الناس، قولوا لا اله إلا الله تفلحوا) وأبو لهب في إثره يحثوا عليه التراب، ويقول : لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، وتتركوا اللات والعزى.
    فتأمل هذا النص وهو يقول: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز يتخللها، يعني يأتي إلى المواسم والى الأسواق، ويخرج إلى الناس ويلقاهم في مجامعهم، ويغشاهم في مجالسهم، وهذه أول خطوة في الصيد، وأول خطوة في طريق الدعوة، و روى أيضا البخاري برواية انـس -رضي الله عنه - أن الصحابة من الأنصار جاءوا للنبي – صلى الله عليه سلم - وقالوا: لو أتيت عبد الله بن أبى سلول - رأس المنافقين- لتدعوه لعله يؤمن، فما استعلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: انطلقوا بنا إليه، وانطلق - عليه الصلاة والسلام - يركب حماره، وانطلق المسلمون معه يمشون، فلما بلغ عند ذلك المنافق قال -عليه لعنه الله - : " إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك " فرد عليه بعض الصحابة رداً غليظاً يكافئ قوله.
    و شاهد الحال أن النبي - صلى لله عليه وسلم - انطلق إلى أهل النفاق.
    وهكذا خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وتحرك ولاقى القوم من قريش في أسواقهم ، ولاقى القـوم اليهـود في مدارسهم ، ولاقى القوم المنافقين في تجمعاتهم، وخرج في كل حدب وصوب، وخرج إلى الطائف لما وجد البيئة المكانية غير ملائمة، أراد أن يشق للدعوة طريقا في موضع آخر، ثم لقي ما لقي من الصد والإعراض، وجاءه ملك الجبال، كما في الصحيـح قال:" لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين لفعلت "، فقال: ( لا ! لعل الله يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ورسوله ).
    فانظر عظيم الحرص على هداية الخلق، وانظر عظيم التعلق بالدعوة وعدم اليأس، وانظر إلى عظيم الصبر، وسعـه الصـدر، وطول النفس، عنده– صلى الله عليه وسلم -
    ثم نرى أيضا ذلك نهج الصحابة - رضوان الله عليهم -، نهج اتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - فالأمثلة في ذلك كثيرة ؛ فعمر - رضي الله عنه - ما فتحت بلد من البلدان، إلا و أخرج إليها علماً من أعلام الصحابة - رضوان الله عليهم - فبعث إلى الشام معاذ بن جبل ، وعباده بن الصامت ، وأبا الدرداء، وبعث إلى الكوفة عبد الله بن مسعود.
    و لم يكن هذا شأن الصحابة فحسب ؛ بل شأن مـن جـاء بعدهم وسار على نهجهم، فهذا سفيان الثوري- أمـير المؤمنين في الحديث- رحمه الله يقول: " والله لو لم يأتـوا لأتيتهـم في بيوتهم -يعني أصحاب الحديث- " فهو لا ينتظر الناس حتى يأتوا إليه ليأخذوا العلم منه، ولذلك شاهد تشبيه النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي شبه الداعية بأن مثله كمثل الغيث أصاب أرضاً وتنوعت هذه الأراضي الذي جاءها ذلك الغيث، فمنها ماهي قيعان سبخة لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، ومنها ما تمسك الماء ولكن لا تنبت الكلأ، ومنها من تمسك الماء وتنبت الكلأ . وتأمل في قصه مالك بن دينار والتي ذكرها ابن الجوزي ، وهو يبين لنا عظيم الفطنة والحركة ، في مسالة اصطيـاده النـاس، يذكر أنه جاءه رجل لص إلي بيته ليسرق، فإذا بالبيت ليس فيه ما يستدعي السرقة وبصر به مالك فقال: يا هذا فاتك حظك من الدنيا؟ قال: نعم قال: فهل لك في شيء من الآخرة ، قال فماذا قال: توضأ فصل ركعتين، ثم ما لبث أن أخذه صـلاة الفجر، فقال له بعض الناس من هذا؟ قال: جاء ليسرقنا فسرقناه. فهذه الروح التي بها ينطلق الداعية، وينطلق بها الصياد الذي يصيد الخلق إلى طريق الحق.
    وذلك كما قال الشاعر:
    إني رأيت وقوف الماء يفســده **** فان ساح طاب وان لم يجر لم يطب
    والأسد لولا فراق الأرض ما احترست **** والسهم لولا فراق القوس لم يصب

    أساسيات فقه الدعوة
    الذي يبقى في مكانه لا يحصل له شيء ، ولذلك كان فقه القوم من أهل البصيرة، يعتمد على أن الإنسان لا بد له أن يغشى مجامع الناس وأن يخالطهم، أما العزلة والانحسار وعدم الاحتكاك فهذا ذم ليس بعده ذم .
    و كذلك المتأخرون ينبهون على ذلك، فهذا الرافعي الأديب - وهو قريب العهد - يقول عن الذي انعزل الناس: " يحسب انه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن قراره في مجاهدة الرذيلة هو في نفسه لكل فضائله " وماذا تكون العفة والأمانة، والصدق والوفاء، والبر والإحسان، إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل، أيزعم أحد أن الصدق فضيلة لإنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار مع من يصدق ؟ وكيف نعرف صدقه وهو لم يدخل مع الناس فيخبرهم، أو يعاشرهم فيعرفون حاله .
    فقال موضحا ذلك: " وأيم الله إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعا لهو الخالي من الفضائل جميعا " .
    و لذلك لا بد من الفهم للمبدأ الأول والأساس الأول، هـو أنه لا بد لك أن تخرج، ولا بد لك أن تخالط، ولا بد أن تعاشر، ويكون غرضك وهدفك لذلك هو أن لا بد لك أن تصلح، ولا بد أن توجه، ولا بد أن ترشد، ولذلك يقول ابن القيم عن بعض السلف أنه كان يقول : " يا له من دين لو أن له رجالاً "، فهذا الدين يحتاج إلى رجال ينقلوه إلى الناس ولذلك قال تعالى: { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم }، فهم رجال رجولة كاملة ، ولذلك أثر عن بعض السلف انه جاء إليه بعض الناس فقالوا له نريدك في تحويجة فقال: "التمسوا لها رجيلاً " أي أنه لا يرضى أن يكون صاحب الأمر البسيط والهيّن.
    و لذلك إن كنت تريد أن تكـون عـلى ذلك القـدر الذي قـال الله فيه : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن }، فينبغي أن تكون رجلاً لا رجيلاً، وهذا أول المبدأ ، مبدأ خروج الصياد .
    ثم من بعد ذلك لا بد له أن يستحضر عدته، وهل ترانا في هذا الحديث نحيط بعدة الداعية ، فهذا أمر يطول، ولكن أسسها يمكن أن تذكر في إيجاز من خلال أسس محدودة يندرج تحتها كثير من الفروع والتفصيلات:

    أسس الداعية وعدته

    أولها: الإيمان الصادق العميق
    ذلك الإيمان يظهر جليا في ثلاثة أبعاد :
    1- إيمان لا يتزعزع أن الأجل بيد الله.
    2- إيمان بأن الرزق بيد الله.
    3- إيمان وإحساس بمراقبه الله - سبحانه وتعالى -.
    هذا هو الإيمان المتحرك ، الإيمان المؤثر، وليس فقط الإيمان النظري أو الجدلي ، الذي يحفظ من الكتب والمقالات، ويعرف من المعضلات والمشكلات، ثم لا تجد له رقة في القلب، ولا قوة في الحق، ولا صبراً على الإيذاء، وتلك صفات الذين قال الله فيهم: { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشيه} .

    ثانيا : التقوى
    وهي أعظم عدة للداعية، لماذا ؟
    لأن فيها حياة القلوب، فلا تفتر ولا تسكن، وفيها نور البصيرة فلا تتأثر بالشبهات، وهذه التقوى تحتاج إلى عهد وميثاق ، قال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها }، وتحتاج إلى مراقبه الله - سبحانه وتعالى- ، وتحتاج إلي محاسبة كاشفة ، وتحتاج إلى مجاهدة دائمة موصولة.

    ثالثاً: العلم والفقه في الدين
    والفقه أوسع دائرة من مجرد العلم الذي ينصرف الذهن فيه إلى ما يحفظ في كتاب الله، أو ما يعرف مـن سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أو ما يعرف من أحكام؛ فإن الفقه في الدين هو نوع من أنواع العلم والبصيرة ، وهذه مسالة مهمة، وعدة من العدد اللازمة لهذا الداعية.
    ليس العلم فقط بكثرة المحفوظ ، وإنما بحسن الفهم، ولذلك لما دعا النبي – صلى الله عليه وسلم - لابن عباس قال: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )، فالفقه في الدين بصر في المقاصد ، ومعرفة بالأولويات، وترتيب للأهميات، وإدراك لواقع الحال، ومعرفة لأثر المتغيرات، وتنبه لاختلاف الأشخاص والنفوس، كل ذلك نوع من الفقه والبصر في الدين.
    والله - سبحانه وتعالى - أحاط بكل شيء علماً ، ثم منّ على رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، بمنة العلم فقال - جل وعلا -: { و أنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم } .
    ولذلك قال قائل السلف : "ماذا أدرك من فاته العلم وماذا فاته من أدرك العلم "، وقد قال بعض المفسرين قال لقمان لابنه: "جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحي القلوب بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض بوابل السماء" .
    و العلم مقدم على العمل ، بل هو مفتاح العمل، قال تعالى: { فأعلم أنه لا اله إلا الله واستغفر لذنبك }
    و هذا العلم يشمل مسائل كثيرة نوجزها:
    1- أن يتعلم المسلم مما يحتاج إليه ويجهله من أمور الإيمان ، وأحكام العبادات والمعاملات، بحسب حاجته ، وهذا العلم هو فرض عين.
    2- الاستزادة في العلم فوق هذا القدر، فلا تحرم نفسك أنوار القرآن، ولا الوقوف على معانيه، ولا تحرم نفسك هدي النبي - صلّى الله عليه وسلم - ، والوقوف على سيرته، ولا تحرم نفسك مما نقل، ومما خلّد التاريخ في آثار المتقدمين في أنواع العلوم المختلفة.
    فهذا العلم وهذه الاستزادة كلما زاد كانت العدة كبيرة البصر بالواقع والعلم به، وهذه المسالة مهمة، فقد جد في حياة الأمة كثير من الفتن، وكثير من المذاهب الروائية، وكثير من المفاسد التي لا بد من تمام الفقه والبصر، والبصيرة التي لا يكون الداعية ملماً بها، ولا يعيش ذلك العصر الذي يقرأ كتبه، بل يستنزل الكتب ليطبقها، ويتفاعل بها مع الواقـع حتى يمكن أن ينتفع بها.

    رابعاً : الالتزام والقدوة
    لا بد أن يكون في أعظم العدة، التزامك بما تدعو إليه، وكونك قدوة للناس فيما تحثهم وتحضهـم عليه ، وشاهد على هذا قوله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }، ونعلم من ذلك حادثة أمر النبي – صلى الله عله وسلم - يوم صلح الحديبية أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم، وأن يحلوا إحرامهم، لأنه قد عقد الصلح ويعزم الرجوع، فشق ذلك على الصحابة - رضوان الله عليهم - فدخل النبي - عليه الصلاة والسلام - على أم سلمة مغضباً، فقال: ( هلك الناس ) فقالت: وما ذلك يا رسول الله، قال: (أمرتهم فلم يأتمروا ) قالت: يا رسول الله إن الناس قد دخل عليهم في ذلك الأمر شيء عظيم ، ثم أشارت عليه بأن يأمر الحلاق فيأتي ويحلق له ثم يحل إحرامه ويذبح هديه وإن هو فعل ذلك فعلوا مثله ...
    فكان ذلك التقدم بالفعل والتطبيق أقوى في التأثير من مجرد القول وهذا هو شأن الإنسان الداعية، الذي ينبغي أن يكون على هذا الأمر ولذلك قال الشافعي رحمه ال له: " من وعظ أخاه بفعلـه كان هادياً" . وكما يقال: لسان الحال ابلغ من لسان المقال.

    خامساً : الربانية
    فإن الداعية ما لم يكن موصولا بالله، متميزا في هذا الشأن، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينجح في مهمته ما لم يمرغ جبهته بالسجود، وما لم يعود عينيه دمعة الخشوع، وما لم يستحضر قلبه في تلاوة القران، وما لم يطيل في رفع الأكف دعاءً لله - سبحانه وتعالى - وما لم يعود نفسه الإنفاق في سبيـل الله ، وما لم يكن دائما رطب اللسان بذكر الله ، ما لم يكن متميزا بهذه الصفات فلا شك أنه - مهما كان في ظاهر سلوكه – يحتاج إلى تلك الصلة بالناس حتى يلقى ذلك العمل الاستمرارية التي يرجوها له .
    هذه هي الجملة الموجزة فيما يتصل بعدة ذلك الداعية.

    الدعوة وحالة المدعو

    أما ما يتعلق بالعدة فلا بد أن تكون مناسبة للصيد فالشبك للبحر، والسهم للبر، والبندقية للطير، وليس كل عدة يرمي بها، وهكذا تأتى إلى العامي وتحدثه في أصول الفقه، وهذا نوع من التخبط ، كأن تأتى إلى البحر وتصطـاد سمكــة ببندقيته، وكذلك المدخل إلى النفوس ، ودليلنا في ذلك ما قاله العباس- رضي الله عنه - يوم فتح مكة: يا رسول الله أن أبا سفيان رجل يحب العز، ويدخل الرسول عليه الصلاة والسلام على صفوان بن أمية -قصه إسلامه-.
    و كذلك مسلمة الفتح؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم- أعطاهم وأعطاهم تأليفاً لقلوبهم، وكذا كل إنسان له مدخل، وله مناسبة معينة، لذا نوع النبي – صلى الله عليه وسلم- لكل في مسالة الوصية. وتنوعت الإجابات المناسبة على حسب الأحوال.
    فلا بد أن تعرف ذلك الصيد ، وما هي العدة المناسبة له، فان كان من المحبين للعلم فمدخله العلم، وإن كان من المحبين للعلاقات الاجتماعية فهو كذلك، وبعض الناس عندما لا يدركون هذه الحقيقة وهذه الغاية يتعثرون في النجاح، فتراهم ليس عندهم إلا عدة واحدة يريدون أن يصيدوا بها كل الصيد، وهذا في غالب الأحيان ينفر الصيد.
    و على سبيل المثال لما رأى النبي - عليه الصلاة والسلام - نجابة ابن عباس قال: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، ولما رأى حرص ابن عمر على العبادة قال:( نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ولما رأى في أبى بصير شكيمة الحرب قال: ( ويح أمه مسعر حرب لو كان له رجال)
    و كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يوجه كل على حسب حاله، وعليه جاء الصحابة كل يتميز بشيء، فأُبيّ أقرءوهم، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وزيد أفرضهم .. وهكذا.
    و الذي يأتي بالمفتاح المضبوط يفتح القفل مباشرة لا يحتاج إلى شدة أو غيرها.
    و من هذه العدة انتهاز الفرص، فقد مرّ النبي - عليه الصلاة والسلام - بجدي أسك ميت ثم قال لأصحابه: (من يشتري هذا بدرهمين؟ ) فسكتوا، فقال:( من يشتري هذا بدرهم؟ ) فقالوا: يا رسول الله لو أنه كـان حياً لمـا رأينا فيـه حاجـة، فقال- عليه الصلاة والسـلام - : ( لهوان الدنيا على الله أهون من هذا عليكم). فالنبي - صلى الله عليه وسلم- انتهز هذه الفرصة وهذه المناسبة فرمى رميته ، لأنه ليس في كل مرة تتاح الفرصة ، ويكون الصيد في موضع مناسب، وفي ظرف مهيأ، وأنت تغفل عنه فيهرب الصيد وتندم على ذلك.
    و كذلك لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم- تلك المرأه وهي تبحث عن ولدها قال: ( أو ترون هـذه ملقيـه بولدها في النـار) قالوا : هي أرحم به من ذلك، فقال - عليه الصلاة والسـلام: ( والله إن الله لأرحم بكم من هذه بولدها)، وقس على ذلك من الوقائع والحوادث الكثيرة.
    و لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم- معاذاً إلى اليمن، لقنه وقال له:( إنك تأتي قوما مـن أهل الكتـاب –فهنـا يختلف الحال فهم، ليسوا مثل غيرهم في الجاهليين- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله ؛ فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة …) -ثم حذره من بعد ذلك من الأساليب التي تنفر الصيد- فقال: ( وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم ؛ فإنه ليـس بينهـا وبين الله حجاب)
    إذن النبي - صلى الله عليه وسلم- أعطاه العدة التي يحتاجها باعتبار اختلاف الحـال ، ثم أعطاه التدرج الذي يحتـاج إليه، ثم حذره من الأمور التي يفقد بها صيده وتتعطل بها مهمته .
    فكذلك الداعية إذا ذهب لدرس أو لعظة، أو لقوم عندهم بصر بأمر، فلا بد أن يتجهز لذلك من التحضير المسبق، ويراجـع معلوماتـه، ويتهيأ بما يحتاج إليه المقام.
    و كلما زادت عدته وذخيرته، كلما كان صيده أكبر، ثم لا بد له من أن يفحص المنطقة، ويحدد الموقع، وهذا المقصود به أن يعرف أحوال الناس، هل هم قوم قد غلب عليهـم الانحـراف في الاعتقاد ؟ أم في السلوك؟ أم هم قوم غلبت عليهم الغفلة، ونوع من الهمم الضعيفة؟.
    فلا بد للداعية عندما يخرج إلى الناس أن يعرف عنهم كل ما يحتاجون إليه من أفعالهم، وأفكارهم، والعوامل التي تؤثر في هذا المجتمع، فلا يمكن أن تأتى إلي قوم أو إلي مجتمع وأنت لا تعرف طبيعة الأفكار التي يعتقدونها، و لا العلم الذي يدرسونه، ولا الأعراف الاجتماعية المتحكمة فيهم، فالمجتمع القبلي غير المجتمع الحضري. ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يدرس كل ذلك ويعرف التفاوت بين الناس في شأن القبائل، وأعيان الناس، وفي شأن العادات المترسخة فيهم.
    و سياسة التدرج في التشريع كانت موافقة ومتناسبة مع أحوال الناس ، ودليل ذلك قول عائشة - رضي الله عنها- قالت: " إن أول ما نزلت آيات الإيمان والجنة والنار، فلما تاب الناس نزلت لا تشربوا الخمر ...لا تقربوا الزنا "
    ثم إن الصياد الماهر يتربص ويحتاج إلي الصمت، وكذلك هذا الداعية لا بد له أن يتربص، وأن يتأنى، وأن يكن، حتى يرى الفرصة المناسبة.

    و لذلك تأمل في هذا نصيحة من عائشة رضي الله عنها لقاضي أهل مكة عندما قالت له: " ثلاثة لتبايعني عليها، أو لا نجيزنـك " قالت له : اجتنب السجع في الدعاء فرسول الله لم يكون يفعل ذلك ولا أصحابه، ولا تحل الناس ولا تحدثهم في الجمعة إلا مرة واحدة، فإن زدت فاثنتين، فإن زدت فثلاث" ثم قالت له: "ولا ألفينك تأتى القوم في حديث منقطع عليهـم، ولكـن إذا فرغوا وأقبلوا عليك فحدثهم "

    وهكذا فإنك ترى بعض الناس يأتي إلى الـزواج ويحـدث الناس عـن الموت، أو العكس ويخلط الأمور، فلكل مقام مقال، أو تكون عنده قضية معينة، فيحاول أن ينهي كل شيء في المجلس الواحد. إذن لا بد من التأني والتربص، والتحلي بالصبر، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم - أسوتنا في ذلك، وكذلك في المواقف العمرية فقد كان - رضي الله عنه- يستعجل ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ببصيرته النافذة يـرى غـير ذلـك ، فيرجـع الأمر مرة بعـد مرة ، وبعد ذلك تظهـر حكمـة النبي - صلّى الله عليه وسلم - .
    فلذلك لا بد للداعية من الصبر والأناة، والتحلي بالصبر وعدم الاستعجال في قطف الثمرة، وهذا يحتاج إلي:

    1- أن يدقق التصويب، وأن يستفرغ الجهد في الإصابة، لئلا ينتج عن الخطأ نوع من تنفير الصيد، الأمر الذي يجعله يحتاج إلي وقت آخر، وهذا أمر مهم، فتنفير الصيد خطأ يحصل في أسلوب التعامل مع المدعو، فلا بد للداعية أن يحسن اختيار الطعم مهما كان غالي الثمن، ولا بد أن يقدم الإنسان الصورة التي يستميل إليها القلوب والتي يرغب فيها المدعو ترغيبا حسنا، فان كان المدعو يتألف بالمال فليكن طعمه المال، وأن يتألف بحسن الكلام وفصيح البلاغة فليكن كذلك، فقد كان يشجّع حسان - رضي الله عنه - فيقول له: (اهجهم وروح القدس معك) ويقول أيضاً عنه وعن غيره من الشعراء الذين نافحوا عن الإسلام-: ( والله لكأنكم تنضحونهم بالنبل )، فلا بد أيضا أن يقـدم الأمر الـذي يحتـاج إليه، والذي يناسب ذلك الإنسان .


    2- البعد عن الخطأ القاتل، الذي يكون فيه تنفير الصيد بحركة معينه، أو صوت معين، ربما ينفر به الصيد، ومنه يكون فقدان هذا الصيد الذي قد يعود أو قد لا يعود.
    والنبي - صلّى الله عليه وسلم - كثيراً ما كان ينبه أصحابه إلى عدم تنفير المدعو، فهذا الأعرابي الذي بال في المسجد، فقام الصحابة ينهوه عن ذلك فقال - عليه الصلاة والسلام: ( لا تزرموا على الأعرابي بولته ) فلما فرغ قال لأصحابه: اهريقوا على بوله دلوا من ماء، ثم قال النبي - صلّى الله عليه وسلم - : للأعرابي ( إن هذه المساجد بيوت الله لا تصلح لبول أو غيره )

    3- و كذلك الصياد الذي يصرفه عن الصيد منظر جميل، فكذلك الداعية لا تتعلق عيونه في أموال الناس، ومدحهم ،و بحسن منظرهم، أو صورهم، أو يرى تجمع الناس حولـه فيفـرح بذلك وينتقل بهذا عن مهمته الأساسية، وهنا مكمن الخطورة، والمنزلق والوخيم، لماذا؟
    لأنه يكون أول قصده، ثم من بعد ذلك تحيط به ظروف فتراه ينشغل بها مرة بعد الأخرى، وما علم أنه إنما أراد من الناس دعوتهم إلى الله - سبحانه وتعالى- وأنه لا يبتغي الأجر إلا من الله . و لذلك جاء القران على ألسنة الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلم -: { قل ما أسألكم عليه من اجر إن أجري إلا على الله } .
    وقد روى ابن القيم عن ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه رأى مجموعة يمشون خلفه فقال لهم: ما شأنكم ؟ فقالوا: نحب أن نمشي معك فقال : لا إنما هو ذلة للتابع وفتنـة للمتبـوع .
    و روي عـن الإمام البخاري -رحمه الله عليه- أنه كان يقول: " قد استوى عندي المادح والذام" . إن مدحه الناس أو ذموه ما صرفه ذلك عن مهمته، ولا يحمله المدح بأن يفرح، ولا أن ينصرف إليه.


    الاهتمام بالمدعو بعد دعوته

    و نقول في آخر الأمر أن الصياد الماهـر ينتفـع بصيـده، فلا يهمله ويتركه هملا، وإنما ينتفع به بكل وجه من الوجوه، وهكذا الذي بذرت في قلبه بذرة الخير، ووضع في نفسـه حـب الالتزام لا بد له أن يرعى هذه البذرة حتى تنمو، وتستوي علـى سوقها وحتى تؤتي ثمارها، وحتى يكون من بعد هذا الذي تأثر صياد آخر فيكثر الصيد، ويعظم الأثر.
    و عليه لا بد أن ترشده في كل شأن من الشؤون، إن كان يتقن أمرا فلا بد أن ينتقل من دور الأخذ إلي دور العطاء، ومن دور الطلب إلى دور الإرشاد.
    بعض الناس يذكر الناس ويعظهم، وربما يرشدهم ويربيهم، ثم لا يوجههم، لأن يكونوا دعاة خير، وأن ينقلوا ما فهموه من العلم وما بصروا به من الحق، ويأخذ وبأيدهم في هذا الطريق ، فإذا انقطع عنهم انقطعوا ورجعوا إلي حالتهم الأولى، كان كالذي بـذر بذراً وكان معه ماء، فهو يسقي الماء ويسير، لا يقف عندها حتى تنمو وحتى يزيل عنها الآفات والعوارض، إذن لا بد من هذا الانتفاع لمن يستجيب للدعوة ويتأثر بها، وهكذا كان فعل النبي - صلّى الله عليه وسلم - فما دخل أحد في دين الله، إلا عهد به إلي أصحابه يعلمونه القران والدين، حتى إذا تمكن في دين الله حمل الرسالة السماوية، فهذا قائد ، وهذا سفير، وذاك معلم .... وهكذا.

    و آخر الأمر الذي نلفت النظر إليه هو : أن الداعية مثل الصياد الماهر في أمر مهم، هو إن الصياد لا يستغني بقوته ولا يكتفي فقط بفطنته، ولا يستخدم حاسة واحدة فقط من حواسـه بل تراه يستخدم حاسة النظـر، ويستخـدم حاسة السمـع ويستخدم حاسة الشم، والعقل والتفكير، ويحتاج إلي القوة الفردية في الشجاعة والإقدام، والقوه الجسدية لمصارعة الصيـد وغير ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للداعية، فهو تحتاج إلي قوة الإيمان، والقوة النفسية، والقوة البدنية، ليجاهد في سبيل الله.
    ويحتاج إلي القوة العقلية ليكون صاحب بصر وحكمه في سياسة الأمور والتخلص من المواقف المحرجة، ويحتاج إلي النظر، وإلي السمـع، وإلي كـل مـا وهبـه الله تعالى لتسخـيره للدعـوة.
    و جماع القول الذي نحب أن نشير إليه وأن نختم به هو أنه لا بد أن نعرف أن الأمر ليس على سبيل التهاون، وليس على سبيل الاحتياط ، وليس على سبيل الهامشية في حياة الإنسان المسلم، بل هو كما قال تعالى: - في شان تحمل الرسالة وتحمل المهمة- :{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة}، وقال للنبي – صلّى الله عليه وسلم - : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً }
    و أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم - : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ووصف المؤمنون بأنهم : { بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}
    و لم يكن الأمر شيئا عارضاً، وإنما هي مهمة لا بد أن تكون ثابتة، وأصيلة، وراسخة، ودائمة، ومستمرة، يفرغ لها الجهد كله، والطاقات كلها، ليكون حينئذ هذا الإنسان الداعية صياداً ماهراً، وكلنا ينبغي أن يكون ذلك الرجل.
    فلا تفقد في بيتك لأنك ستخلد إلي النوم، وتتعلم فن التثـاؤب كما قال بعض الدعاة ، ولا شك أنك لعلمك إذا كانت صاحب علم وتأثير، سوف يكون لك أثر في الحكمة والبصيرة .
    و هذا أمر لا بد أن يتعاون الجميع عليه، لأنه مـن أعظـم الـبر والتقوى كما قال تعالى: { وتعاونوا على البر والتقوى }
    و الله نسأل أن يوفق الدعاة إلي دينـه، وأن يسـدد خطـاهم وأن يجمع كلمتهم ، وأن يلهمهم الرشد والصواب، وأن يوفقهم إلى ما يحب ويرضى .

    كن أول من يقيم الموضوع
    12345