• قضايا إسلامية معاصرة
  • 844
  • 9-8-2008
  • سعد البريك
  • روى ابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله " .
    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو فر أحدكم من رزقه أدركه كما يدركه الموت " . رواه الطبراني زهو صحيح .
    وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة عائرة - ساقطة لا يُعرف لها مالك - فأخذها فناولها سائلاً , فقال : " أما أنك لو لم تأتيها لأتتك ". رواه ابن حبان .
    فالله تعالى تكفل بالرزق ليتفرغ الناس للعبادة ، وكان من دعاء السلف: اللهم أشغلني بما كلفتني به ، ولا تشغلني بما تكفلت لي به .
    ولما أمر الله تعالى بالعبادة جاء الأمر بصيغة المسارعة والسعي {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } ، { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم أن كنتم تعلمون } .
    وعندما أمره بطلب الرزق ، جاء الأمر بصيغة المشي والتأني { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } . لكن الملاحظ في هذا الزمان أن بعض الناس انتكست لديهم هذه المفاهيم ، فتراهم يسارعون خلف المال في سعي حثيث للثراء السريع والربح العاجل ، وإذا حان وقت العبادة أو دعوا إلى قربة جاؤوها كسالى متثاقلين ، وأصبحت المادة هي مقياسهم للحكم على الأمور, وقيمة كل امرئ ما يدخره من حسابات جارية أو أسهم مستثمرة أو ودائع آجلة أو عاجلة .
    ومن صور اللهث المضطرب واللاواعي خلف الرزق ، تهافت بعض الناس على البيع والشراء والمضاربة في الأسهم المحلية والخارجية ، وباتت التجارة الالكترونية شغلهم في مجالسهم ومنتدياتهم ، وافتُتحت الصالات الاستثمارية ، وأنشئت مواقع عدة على شبكة المعلوماتية ، وبات رواد غرف الأسهم في هذه المواقع أضعاف أضعاف رواد الصالات ، وأقيمت الدورات التعليمية والإرشادية والتثقيفية في أصول التجارة بالأسهم ودراسة أحوال المؤشر وسبل توقع انخفاضه وارتفاعه.
    وصار البعض في بيعه وشرائه يخبط خبط عشواء دون أن يميز بين ما هو حلال وما هو حرام وما يدور في دائرة الشبهات .
    وهذا مصداق ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال ، أمن حلال أم من حرام " .
    نرقّعُ دنيانـا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّعُ
    فطوبـى لعبدٍ آثرَ اللهَ ربَّه وجاد بدنيـاه لمـا يتوقّعُ
    ومن صور انجراف الناس خلف تجارة الأسهم دون تفكير أو روية أن بعضهم قدم استقالته من وظيفته التي كانت تؤمن له دخلاً شهرياً ثابتاً ينفق منه على نفسه ومن يعول ، وتفرغ للمضاربة بالأسهم بعد أن قبض مستحقاته وما ادخره ورمى بها في أتون المساهمات ، فلما انهار السوق ، انهار هو معه ، ولا يسل أحد عن حالات الإغماء والصدمات القلبية والدماغية التي أصابت الناس بسبب انهيار الأسهم بل إن بعض المستشفيات استقبلت حالات وفاة بسبب ذلك.
    وبعض الناس باع بيته ، وبعضهم باع السيارة .
    والبعض ضيع أمانته في عمله ووظيفته ، كما يحصل من بعض الموظفين من اشتغالهم بشاشات الأسهم وترك ما يجب عليهم من أعمال يتقاضون عليها الرواتب
    وبعضهم ركَّب في ذمته ديوناً لأجل المساهمات ولا يدري لو عاجلته منيته كيف سيكون حاله وعذابه حتى يقضى ما عليه .
    عن جابر رضي الله عنه قال : مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه فجاء معنا خطى ثم قال :" لعل على صاحبكم ديناً ؟. قالوا : نعم ديناران ، فتخلف فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة يا رسول الله هما علي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" هما عليك وفي مالك والميت منهما بريء "؟. فقال : نعم ، فصلى عليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أبا قتادة يقول :" ما صنعت الديناران "؟. حتى كان آخر ذلك ، قال : قد قضيتهما يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم :" الآن حين بردت عليه جلده ". رواه أحمد والنسائي والحاكم بسند صحيح .
    وبعض الناس قتَّر من النفقة الواجبة على عياله ومن تحت يده ليدخر مبلغاً يضارب به في سوق الأسهم فخسر ما وفر وحرم أسرته بعض ما يجب لها .
    لا نقول هذا الكلام لثني الناس عن السعي في طلب الرزق ، أو صرفهم عن الاستثمار المباح ، إنما هي دعوة للتعقل والتروي وعدم الانجراف والتضحية بكل ما يملكه الإنسان في سوق متقلب مضطرب لا يقر على نسبة ولا يتوقف عند حد معين .
    إن استثمار المال فيما هو جائز أمر واجب في مجموعه ، فلا يجوز للأمة الإعراض عنه ، والنصوص التي تقدم المال على النفس في معظم الآيات وامتنان الله تعالى بالمال، والمساواة بين المجاهدين، والساعين في سبيل الرزق كما في قوله تعالى في آخر سورة المزمل {... عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ... }، كل هذه النصوص تدل بوضوح على وجوب العناية بالمال وتثميره وتقويته حتى تكون الأمة قادرة على الجهاد والبناء والمعرفة والتقدم والتطور والسعادة والنهضة والحضارة، وذلك لا يتحقق إلا بالمال كما في قوله تعالى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا } ، وقد سمى الله تعالى المال بأنه قيام للمجتمع الإسلامي، وهذا يعني أن المجتمع لا يقوم إلا به ولا يتحرك إلا به ولا ينهض إلا به، كما أن قوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا } ولم يقل "منها" يدل بوضوح على وجوب الاستثمار حتى تكون نفقة هؤلاء المحجور عليهم (من الأطفال والمجانين وغيرهم ) في الأرباح المتحققة من الاستثمار وليست من رأس المال نفسه.
    فاستثمار الأموال بوجهها العام واجب كفائي ، ويجب على الأمة أن تقوم بعمليات الاستثمار لتحصل على وفرة مالية وتشتغل الأيادي ويتحقق حد الكفاية للجميع إن لم يتحقق الغنى، ومن القواعد الفقهية في هذا المجال : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
    لكن هذا الاستثمار لا بد أن يكون منضبطاً بضوابط الشريعة التي فصَّلت الحرام وبينت الحلال ، وكما أن الفكر الرأسمالي يسير عجلة الاستثمار في النظام الرأسمالي ، والفكر الشيوعي كان يسير عملية الاستثمار في الاتحاد السوفيتي السابق والدول الاشتراكية نحو إطاره الفلسفي وأهدافه من خلال وسائله الخاصة ، فكذلك يجب أن تكون الشريعة الإسلامية هي المهيمنة في الفكر الاقتصادي الإسلامي، وفي منهج الاستثمار وأدواته ووسائله وآلياته ، لأن المال مال الله تعالى ونحن مستخلفون فيه.
    ومن هنا تختلف تصرفات المؤمن عن الكافر فبينما يضع المسلم في الاكتساب والإنفاق والاستثمار رضى الله تعالى نصب عينيه ، يضع الكافر مصالحه الشخصية أولاً ثم مصالح قومه فوق كل الاعتبارات، بل قد لا يكون له اعتبار إلا لهما، يبين ذلك قوله تعالى في وصف المؤمنين {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } . بينما يصف الكافر بأنه ليس راغباً في إطعام اليتامى والمساكين؛ لأنه ليس فيه مصلحة دنيوية له، حتى لو أطعم فإنما يطعم من يرجو منه مصلحة كأصحاب الجاه، حيث يقول تعالى { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } .
    ولأجل هذه النظرة الشرعية ينظر المؤمن للربا على أنه محق للأموال ونقص حقيقي، وأن دفع الصدقات زيادة لها { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } .
    ولأجل هذه النظرة الشرعية أيضاً يمتنع المؤمن عن المحرمات ويقبل على الطاعات، ويعلم أنه مثاب مأجور حينما يستثمر ويتاجر ويعمل لكفاية نفسه وحفظ ماء وجهه ، إضافة إلى يقينه بأن الفضل لله تعالى أولاً وآخراً ، فلا يحزن ولا يغتم عند الخسارة، ولا يبطر ويطغى عن الربح والغناء {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ}.
    فهو دائماً في أحد المقامين أو في كليهما: مقام الشكر والثناء، ومقام الصبر والرضا.
    والأسهم التي يتاجر بها الناس تنقسم إلى نوعين: نوع محرم تحريماً بيناً، ونوع فيه النقاش والتفصيل والخلاف.
    فالنوع الأول وهو النوع المحرم : هو أسهم المؤسسات والشركات التي تتاجر بالخنزير، والخمور ونحوها من المحرمات .
    فهذه الأسهم جميعها لا يجوز إنشاؤها، ولا المساهمة في إنشائها، ولا التصرف فيها ولا بأسهمها بالبيع والشراء وغيرهما .
    يقول ابن القيم بعد أن ذكر الأحاديث الخاصة بحرمة بيع بعض الأشياء: "فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس: مشارب تفسد العقول –كالخمر- ومطاعم تفسد الطباع وتغذي غذاء خبيثاً –مثل الميتة، والخنزير- وأعيان –كالأصنام تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك، فصان بتحريم النوع الأول، العقول عما يزيلها، ويفسدها، وبالثاني القلوب عما يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها...، وبالثالث الأديان عما وضع لإفسادها" . (زاد المعاد 5/746) .
    وهناك أسهم الشركات والمؤسسات الربوية ، وهذه حرام لا يجوز العمل بها أيضاَ .
    فالربا يهلك الأموال ويمحق البركات ويجلب الحسرات ويورث النكسات، قال تعالى { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } .
    وهو دمار للأفراد والشعوب وإشعال لفتيل الحروب وصغار وذلة للمتعاملين به .
    ولا أدل على ذلك من هذه النكبات التي حطت رحالها بأرجاء الأمة، من حروب مدمرة ، وفيضانات عارمة ، وكسوف وخسوف ، ورياح عاتية ، وقتل وسرقات ، وجرائم واغتيالات ، ونهب للممتلكات ، وكوارث وحوادث ، ليس لها من دون الله كاشفة ، ولا منجى منها إلا بتوبة صادقة .
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .‏
    وقال صلى الله عليه وسلم :" درهم ربا يأكلُّه الرجلُ وهو يعلم ؛ أشدُّ من ستةٍ وثلاثين زنية " . رواه أحمد وهو صحيح .
    وقال عليه الصلاة و السلام : " الربا ثلاثٌ وسبعون بابا ؛ أيسرُها مثلُ أن ينكحَ الرجلُ أمه ". رواه الحاكم بسند صحيح .
    وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم
    : " أريت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة ، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم ، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجلَ بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟، فقال: الذي رأيته في النهر: آكل الربا ". رواه البخاري.
    فحذار حذار من الربا ، وإذا أراد أحد شراءَ أسهم شركةٍ ما فعليه أن يتتثبتَ من أنَّ نشاطَها مباحاً ونقيا ، فلا يصحُّ بحالٍ أنْ يساهمَ في البنوكِ الربوية ، أو الشركاتِ المصنعةِ للسلعِ التي حرمها الله تعالى، كالدخانِ أو الخمرِ وما شابه ذلك .
    فرب سهم محرم كان سبباً لحرمان صاحبه من إجابة الدعاء .
    ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمُدُّ يديه إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فــــأنــى يستجابُ لـــه . رواه مسلم .
    ورُبّ سهم محرم كان شؤماً على صاحبه ، سلط الله عليه بسببه الآفات المهلكة ، من غرق أو حرق أو لصوص أو أنظمة جائرة تذهب به جميعه ، وكم رأى الناس وعاينوا ، وشاهدوا وباينوا ، عاقبة الربا على أصحابه ، فكم من الأثرياء المساهمين بالربا محق الله ما بأيديهم ، حيث أصابتهم الديون ، فأخذهم الله بعذاب الهون ، فصاروا عالة على الناس يتكففون ، وصدق الله العظيم القائل : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً } .
    رُبَّ سهم محرم أغرى الناس بالربح السريع ، لكنه أصاب مقتلا في اقتصاد البلاد ، فصرف الناسُ عن التطوير وإنشاء المصانع وإقامة المشاريع ، إلى الجلوس أمام الشاشات فتقلصت حركة البناء ، وأصاب الفتورُ الحركة التجارية .
    وما سوى الشركات الربوية والشركات التي تتعامل بالحرام فهو على أقسام :
    القسم الأول: أسهم الشركات المباحة ، رأس مالها حلال ، وتتعامل في الحلال ، وينص نظامها وعقدها التأسيسي على أنها تتعامل في حدود الحلال، ولا تتعامل بالربا إقراضاً، واقتراضاً، ولا تتضمن امتيازاً خاصًّا أو ضماناً ماليًّا لبعض دون آخر.
    فهذا النوع من أسهم الشركات مهما كانت تجارية أو صناعية أو زراعية يجوز التعامل بها وشراء أسهمها ، لأن الأصل في التصرفات والعقود المالية الإباحة.
    القسم الثاني : أسهم الشركات المختلطة ، وهي أسهم الشركات التي لا تزاول المحرمات ، لكنها قد تودع في بعض الأحيان بعض أموالها في البنوك بربا، أو تقترض منها بربا ، أو تكون نسبة قليلة من معاملاتها قد تمت من خلال عقود فاسدة ، وهذه ينبغي عدم التعامل تورعاً واجتناباً للشبهات ، فالمسلم مأمور بتحري المال الحلال الطبيب الذي لا شبهة فيه، قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } . وقال صلى الله عليه وسلم : " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه... " رواه البخاري .
    وقال سفيانُ بنُ عيينة- رحمه الله- : لا يُصيبُ عبداً حقيقةَ الإيمانِ حتى يجعلَ بينَه وبين الحرامِ حاجزاً من الحلال ، وحتى يدعَ الإثمَ وما تشابه منه.
    ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول: " المكروه عقبة بين العبد وبين الحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام... " (الفتح 1/127).
    فما دام أن هذه الأسهم فيها حرام ، أو تزاول شركاتها بعض أعمال الحرام كإيداع بعض أموالها في البنوك الربوية ، فإن الورع يوجب اجتناب الاتجار بها ، بناء على النصوص الدالة على وجوب الابتعاد عن الحرام، والشبهات، وعلى قاعدة: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام.
    القسم الثالث : أسهم شركات أصل نشاطها مباح وجائز ، لكنها تتعامل بالربا بشكل كبير فهذه يحرم التعامل معها وجوباً لا ورعاً .
    أمة الإسلام : إن حب الدنيا والسعي في جمع المال من أي وجه كان من غير نظر إلى حلال أو حرام هو رأس كل إثم وخطيئة، فليس الغني من كان له مالاً وفيرًا وقصرًا كبيرًا، وسيارة فخمة وثروة ضخمة، أو لباسًا غاليًا ومنصبًا عاليًا، لكن الغنى الحقيقي في غنى النفس وقناعتها، وإن الثروة الحقيقية هي طاعة الله تعالى والرضا بما قسمه، قال صلى الله عليه وسلم : " ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس ". رواه البخاري .
    وقال صلى الله عليه وسلم :" قد أفلح من أسلم ورُزِق كفافًا وقنعه الله بما آتاه ". رواه مسلم .
    الفقر ليس عيباً حتى نخاطر ونغامر للتخلص منه ، وقلة اليد ليست من خوارم المروءة حتى يبيع البعض بيوتهم ليزجوا بأثمانها في سوق الأسهم الذي لا يعرف الرحمة ولا الشفقة ولا يميز بين المضطر وغيره ، ولا يمحص الصادق من الكاذب ، فالفقر ليس نقصاً وعيباً ولا هو دونية وضِعَة ، لأن قيمة الإنسان في هذه الدنيا ليست بما عنده من الأموال والضيعات، ولا بما يحيط به من الأولاد والزوجات، فكل ذلك عَرَض زائل وعارية مستردّة، بل قيمته بطاعته وعبادته وقربه من ربه ومهما بلغ من الغنى فليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى ، وكل ذلك إما حلال فيحاسب عليه، أو حرام فيعاقب عليه، ولو كانت الدنيا عند الله تساوي جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء، ولو كانت عنده غالية ما حجبها عن نبيه وخيرة خلقه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الذين هم خير البرية وأزكاها .
    عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله أرسل إلى نبيه ملكًا من الملائكة معه جبريل، فقال الملك لرسوله: إن الله يخيرك بين أن تكون عبدًا نبيًا، وبين أن تكون ملكًا نبيًا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تواضع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل أكون عبدًا نبيًا "، قال: فما أكل بعد تلك الكلمة طعامًا متكئًا حتى لقي الله عز وجل. رواه النسائي بسند صحيح .
    وقال عمر رضي الله عنه : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوّى؛ ما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطنه. والدقل هو رديء التمر .
    وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء، فقال: " ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها". رواه الترمذي وابن ماجة وهو صحيح .
    ومر أبو هريرة رضي الله عنه بقوم بين أيديهم شاة مصليّة، فدعوه فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير.
    وعن أنس رضي الله عنه قال: لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خِوَان حتى مات، وما أكل خبزًا مرقّقًا حتى مات، ولا رأى شاة سميطًا بعينه قط.

    كن أول من يقيم الموضوع
    12345