• التربية والأسرة المسلمة
  • 1070
  • 7/8/2008
  • وليد بن إدريس المنيسي
  • ملخص الخطبة

    1- قصة رجلين صالحين زاهدين في الدنيا. 2- حقيقة الدنيا. 3- ذم الدنيا.

    الخطبة الأولى

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: قال النبي : ((اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرّةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب.

    وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدّقا)) [رواه البخاري 3472، ومسلم 1721].

    في هذا الحديث الجليل يخبرنا نبينا عن رجلين صالحين من الأمم السابقة اشترى أحدهما من الآخر أرضاً فوجد في هذه الأرض جرّة (إناء كبير من الخزف) مملوءة ذهباً فلم يقع منهما التنافس للحصول على هذا الذهب والاستئثار به دون الآخر، بل لم يقبل كل واحد منهما أن يأخذ من الذهب شيئاً ويترك لصاحبه الباقي خوفاً من أن يكون حراماً، والمال الحرام يّذهب البركة ويجلب غضب الربا ويمنع إجابة الدعاء ويؤدي إلى دخول النار ويكون الحساب عليه يوم القيامة بالحسنات والسيئات حيث لا درهم ولا دينار.

    فلصلاح هذين الرجلين ذهبا يحتكمان إلى عالم من علمائهم، وكانت حجة البائع أنه باع الأرض بما فيها، فالذهب ليس له، وكانت حجة المشتري أنه اشترى الأرض ولم يشتر الذهب، ولو كان غيرهما من الناس لكانت هذه الحجج يستدل بها كل طرف على استحقاقه هو للمال دون صاحبه، ولكن الخوف من الله تعالى زهدهما في هذا المال المشتبه فيه.

    فجاء الحكم الذي رضي به الطرفان وهو تزويج ابن أحدهما ببنت الآخر، والإنفاق من هذا المال على الأسرة الجديدة التي تقوي أخوة الإيمان بين هاتين الأسرتين الصالحتين، وكذلك التصدق من هذا المال.

    وفي شريعتنا لو وجد شخص مالاً مدفوناً من أمد بعيد ولا يمكن الاستدلال على أصحابه فإنه يخرج خمسه في سبيل الله ويأخذ الباقي حلالاً لقوله : ((وفي الركاز الخمس)) [رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة].

    هذه نظرة الصالحين إلى الدنيا وهذه هي حقيقة الدنيا في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله ، والدنيا عبارة عن كل ما يشغل عن طاعة الله مما يكون قبل الموت.

    فعلى هذا فإن الأموال والأولاد والمناصب إذا استعان بها صاحبها على طاعة الله فليست مذمومة، وإذا شغلت عن طاعة الله أو أدت إلى معصيته فهي مذمومة.

    قال تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [البقرة:200-201].

    وقال تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين [آل عمران:144].

    وقال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحديد:20].

    وقد ورد لفظ (الدنيا) في كتاب الله تعالى في مائة وأربعة عشر موضعاً، وكذلك ورد لفظ (الآخرة) في كتاب الله في مائة وأربعة عشر موضعاً، والدنيا مذمومة في كتاب الله تعالى دائماً.

    قال ابن مسعود : (من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، فيا قوم أضروا بالفاني للباقي).

    وقال بعض السلف: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

    عن أبي هريرة أن النبي قال: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً)) [رواه ابن ماجه وحسّنه].

    عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: ((إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) [رواه مسلم].

    ولو تفكر الإنسان في عاقبة الدنيا إذا شغلت عن طاعة الله تعالى لزهد فيها.

    عن أنس مرفوعاً: ((يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت نعيماً قط، ويؤتي بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت بؤساً قط)) [رواه مسلم].

    ولهذا فقد أمرنا بالتنافس في طلب الآخرة وفي العمل الصالح، ونهينا عن التنافس في الدنيا.

    قال: ابن عباس : (يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة الخلقة، لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم: أتعرفون هذه؟ هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار، فتقول: يا رب أين أتباعي وأحبابي وأصحابي فيلحقونها).

    وذكر في الخبر عن المسيح عليه السلام أنه كان ذات يوم ماشياً فنظر، فإذا امرأة عليها من كل زنية فذهب ليغطي وجهه عنها فقالت: اكشف عن وجهك، فلست بامرأة، إنما أنا الدنيا، فقال لها: ألك زوج؟ قالت: لي أزواج كثير فقال: أكلٌ طلقك؟ قالت: بل كل قتلتُ، فقال: أحزنت على أحد منهم؟ فقالت: هم يحزنون علي ولا أحزن عليهم، ويبكون علي ولا أبكي عليهم.

    قال الإمام الشافعي:

    بلوت بنـى الدنيـا فلم أرفيهـم سوى من غدا والبخل ملء إهابه

    فجردت من غمد القناعة صارماً قطعت رجائـي منهـم بذبابـه

    فلا ذا يراني واقفاً فـي طريقـه ولا ذا يراني قاعـداً عنـد بابه

    غنيٌ بلا مـال عن النـاس كلهم وليس الغني إلا عن الشيء لا به

    وقال الإمام الشافعي أيضاً:

    ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسـيق إلينا عذبها وعذابهـا

    فلم أرهـا إلا غروراً وباطلاً كمالاح في ظهر الفلاة سرابها

    وما هي إلا جيفـة مستحيلة عليها كـلاب همهن اجتذابهـا

    فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها تنازعتك كـلابها

    اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم آمين والحمد لله رب العالمين.

    كن أول من يقيم الموضوع
    12345