• الفقه
  • 10474
  • 6-8-2008
  • تقف أمة الإسلام اليوم في منعطف خطير لما وصل إليه الكفر من عنجهية واستكبار وكفر بالله الواحد القهار مع تسلط على المسلمين وإذلال لهم ، وهم يرزحون تحت وطأة الضعف والفرقة والاختلاف.
    وإن الناظر في هذه الحال يعلم أن السبب الذي أوصل الأمة إلى ما هي فيه هو ما اقترفته أيدي أبنائها وجنوه على أنفسهم من الاستهانة بالمعاصي واستصغار الكبائر واحتقار العظائم {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من مصيبة فمن نفسك } .
    فمن سنن الله تعالى الثابتة أن المصائب والمهالك عقوبات تصيب الأمم بسبب ذنوبها وآثامها، فالله حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة ، قال تعالى { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}. قال الطبري : أي وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترحتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم فلا يعاقبكم بها". [الطبري 25/32] .
    لقد حذر تعالى عباده من معصيته ، بما أعلمهم به من نواميس ربوبيته، وأقامه من سطوات قهره وجبروته ووحدانيته ، فالمعاصي تضر بالقلوب كضرر السموم في الأبدان . وما في الدنيا والآخرة من شرور وعقوبات إلا وسببه الذنوب والمعاصي فقال { فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ، وقال عز وجل { فلما آسفونا انتقمنا منهم }أي أغضبونا. وأعظم ما يغضب الله وينزل عقابه هو الوقوع في كبائر الذنوب وأعظم ما يرفع العقوبة ويستنزل المغفرة ويستمطر الرحمة تركها واجتنابها قال عز وجل { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً }. وقال صلى الله عليه وسلم :" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر "رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
    وقد عرف العلماء الكبيرة بأنها: ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد، بنص كتاب أو سنة. أو ما أوجب الحد.
    وذهب بعض العلماء إلى تعريفها بالعد، من غير ضبطها بحد، فقيل: هي سبع واستدلوا على ذلك بخبر الصحيحين: " اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ". وقال ابن عباس : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.وقال سعيد بن جبير: هي إلى السبعمائة أقرب يعني باعتبار أصناف أنواعها . وذهب البعض الآخر إلى أنه لا حد لها يحصرها يعرفه العباد، وإلا اقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، كما أخفى الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك .
    والأحاديث التي تنهى عن الكبائر نوعان : منها ما صرح فيه بأنه كبيرة، أو أكبر الكبائر، أو أعظم الذنوب ، أو موبق أو مهلك ، كما في الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعاً :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وقول الزور، وكان متكئاً فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " . ولهما أيضا أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال: إن ذلك عظيم، ثم أي؟ قال: وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك " وفيهما أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من الكبائر شتم الرجل والديه، قيل وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب الرجلُ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه". والنوع الثاني وهو ما ذكر فيه نحو لعن، أو غضب، أو وعيد شديد مثلما رواه مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم :" قال: ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل إزاره خيلاء" وفي روايات أخر: " والمنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منّه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".ومنه أيضاً قوله:" لا يدخل الجنة قتات " أي نمام.
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وتنقسم الذنوب إلى أربعة أقسام : (مَلكِية، وشيطانية ، وسَبْعية ، وبهيمية ) لا تخرج عن ذلك .
    فالذنوب الملكية : أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية ، كالعظمة والكبرياء والجبروت والقهر والعلو بغير الحق واستعباد الخلق ونحو ذلك ، ويدخل في هذا الشرك بالرب تبارك وتعالى ، وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب ، ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره ، فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه في ربوبيته وملكه وجعل نفسه له نداً . وهذا أعظم الذنوب عند الله ولا ينفع معه عمل .وأما الشيطانية : فالتشبه بالشيطان في الحسد والبغي والغش والغل والخداع والمكر والأمر بمعاصي الله وتحسينها ، والنهي عن طاعة الله وتهجينها ، والابتداع في دينه والدعوة إلى البدع والضلال ، وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة وإن كانت مفسدته دونه .وأما السبعية :فذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء والتوثب على الضعفاء والعاجزين. وأما الذنوب البهيمية : فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج . ومنها يتولد الزنى والسرقة وأكل أموال اليتامى والبخل والشح والجبن والهلع والجزع وغير ذلك. وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية ومنه يدخلون سائر الأقسام.أ . هـ .
    عباد الله : لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من المعاصي وعقوباتها عموماً وحذر من كبائر الذنوب خصوصاً لأن خطرها أشد، ففي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله . فقال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور" وفي البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات . قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الإشراك بالله والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله ألا بالحق، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ". وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الذنب أكبر عند الله؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك " ، فأنزل الله تعالى تصديقها { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}.رواه البخاري وأحمد وغيرهما .
    فالشرك أكبر الكبائر ، لأنه ضد التوحيد الذي خلق الله الخلق من أجله ولذلك فقد حرم الله الجنة على أهله لما تركوا القيام بعبوديته ، وأبى سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً ، ويقبل فيه شفاعة ، أو يستجيب له في الآخرة دعوة أو يقبل له فيها رجاء. قال الله تبارك وتعالى { فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون } ، الأنداد جمع ند ، والند هو المثل والنظير.ومعنى أن تجعل لله أنداداً ، أي : أن تصرف العبادة أو شيئًا منها لغيره.
    قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: أي لا تشركوا بالله شيئًا من الأنداد فهي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أن ربكم لا يرزقكم غيره، وأن الذي يدعوكم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه ، ثم زاد رضي الله عنه هذه الآية تفسيراً وتفصيلاً فقال: الأنداد : هو الشرك أخفى من دبيب النملة على الصفاة السوداء في ظلمة الليل ، وهو أن تقول والله وحياتك يا فلان وحياتي.أو تقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، أو لولا البط في الدار لأتانا اللصوص.أو هو كقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشاء فلان. ولولا الله وفلان ، هذا كله به شرك. انتهى كلامه رضي الله عنه .
    ومن الكبائر الموبقات : السحر لأنه من عمل الشيطان كما قال تعالى { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }.فالساحر عميل الشياطين خاضع لهم متقرب إليهم ؛ وهو بعمله هذا يفسد العقيدة ويفسد المجتمع ، لما يحدثه من الأضرار بإحداث التباغض بين المتحابين ، كما قال تعالى{فيتعلمون منها ما يفرقون به بين المرء وزوجه } ، ويحدث أمراضاً وقتلاً وفساداً عريضاً ، ولما كان يشتمل على هذه الأضرار وغيرها صار قريناً للشرك ويليه في المرتبة ، ولهذا فقد حكم الشارع بكفر السحرة وثبت الأمر بقتلهم عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم لإراحة المجتمع من شرهم.
    ومن الكبائر الموبقة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، قال الله تعالى{ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } ، وقال{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}.وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ". متفق عليه.
    وبَيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة دم المسلم وأنها عند الله عزّ وجل أعظم من زوال الدنيا، وأن زوال الدنيا هينة عنده سبحانه أمام دم المسلم يُقتل بغير حق ، فقال صلى الله عليه وسلم :" قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " رواه النسائي عن بُريدة رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الجامع ، وفيه أيضاً عند النسائي والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً :" لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم " .
    إن ذنب وجريمة القتل عظيمة عند الله عز وجل وقد شَنّع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال :" كل ذنب عسى الله أن يَغفِره إلا من مات مُشركاً أو قتَل مؤمناً متعمداً " . رواه أحمد في المسند والنسائي والحاكم عن معاوية رضي الله عنه وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع وفيه أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة " رواه الطبراني.
    وهنا لا بد من التنبيه على أن جميع الأحاديث الواردة بتكفير القاتل أو دخوله النار تُحمَل على أنه كُفر دون كفر أو دخول النار من غير خلود ، أو يُحمل على الكفر الأكبر لمن استحلّ ذلك ، فمذهب أهل السُنّة والجماعة أن مرتكب الكبيرة وإن لم يتب منها أو مات مُصّراً عليها ولكنه مات مُوحداً فلن يَخلُد في النار لقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويَغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
    ومن الكبائر: عقوق الوالدين وهو صدور ما يتأذى به الوالدان من قول أو فعل، وقال بعضهم بأن ضابط العقوق هو أن يحصل للوالدين أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عُرفًا، فسبهما وعصيانهما والتلكؤ في قضاء شؤونهما ومد اليد بالسوء إليهما ولعنهما وغيبتهما والكذب عليهما؛ كل ذلك عقوق ونكران للجميل، وكذلك نهرهما وتوبيخهما وقهرهما والتأفف منهما والتكبر عليهما والدعاء عليهما كل ذلك عقوق وإثم كبير وذنب عظيم .
    فعقوق الأبناء لآبائهم تئن له الفضيلة، وتبكي له المروءة، وتأباه الديانة، ولا يرضى به الكافر العاقل فضلاً عن المؤمن لأن فعله منكر عظيم.ولذا فقد حرمه الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء ولو بأن يقال لهما أدنى ما يمكن أن يعبر به عن الإمتعاض وعدم الرضى، ولو بأن يقال لهما أُف فقال { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } قال بعض أهل العلم : لو علم الله كلمة أقل من ( أف ) لذكرها ، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ".رواه البخاري وغيره.
    لقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعلقت القلوب بمن كان له فضل عليها كما قال القائل :
    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما استعبد الإنسان إحسان
    وليس أعظم إحساناً ولا أكثر فضلا بعد الله سبحانه وتعالى من الوالدين ، فقد قرن سبحانه حقهما بحقه، وشكرهما بشكره، وأوصى بهما إحساناً بعد الأمر بعبادته {وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً }.فلله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث: لا تقبل واحدة بغير قرينتها ، الأولى { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ} فمن أطاع الله ولم يطع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه.والثانية { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلَوٰةَ وَاتُواْ ٱلزَّكَـوٰةَ } فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه. والثالثة { أن اشكر لي ولوالديك } فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.فرضى الله في رضى الوالدين، وسخط الله من سخط الوالدين.
    إن إحسان الوالدين عظيم، وفضلهما سابق ، حملتك أمك في أحشائها تسعة أشهر، وهناً على وهن، حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً.وعند الوضع رأت الموت بعينها، ولكن لما بصرت بك إلى جانبها سرعان ما نسيت آلامها، وعلقت فيك جميع آمالها. رأت فيك البهجة والحياة وزينتها، ثم شغلت بخدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها ، طعامك درها. وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها.تحيطك وترعاك ، تجوع لتشبع أنت ، وتسهر لتنام أنت ، فهي بك رحيمة ، وعليك شفيقة. إذا غابت عنك دعوتَـها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها. تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحظتك بعينها.
    أما أبوك فأنت له مجبنة مبخلة، يكد ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار. يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثاً عن لقمة العيش، ينفق عليك ويصلحك ويربيك. إذا دخلتَ عليه هشَّ وإذا أقبلتَ إليه بشَّ ، وإذا خرج تعلقْتَ به، وإذا حضر احتضنت حجره وصدره، هذان هما والداك، وتلك هي طفولتك وصباك، فلماذا التنكر للجميل؟ وعلام الفظاظة والغلظة، وكأنك أنت المنعم المتفضل؟!.
    أخرج الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر فقال صلى الله عليه وسلم : " فهل من والديك أحد حي "؟ قال: نعم بل كلاهما. قال : " فتبتغي الأجر من الله؟ ". قال: نعم. قال: " فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما".
    أيها الإخوة في الله : إن حق الوالدين عظيم، ومعروفهما لا يجازى، وان من حقهما المحبة والتقدير، والطاعة والتوقير، والتأدب أمامهما، وصدق الحديث معهما، وتحقيق رغبتهما في المعروف، وتنفق عليهما ما استطعت ، ادفع عنهما الأذى فقد كانا يدفعانه عنك لا تحدِّثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت. جنبهما كل ما يورث الضجر{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} . تخير الكلمات اللطيفة، والعبارات الجميلة والقول الكريم.
    ومن الكبائر الموبقة جريمة الزنا ، فهو من أعظم المفاسد لأنه يترتب عليه فساد نظام العالم في حفظ الأنساب وحماية الفروج وصيانة الحرمات ، وهو يوقع العداوة والبغضاء بين الناس ، ويسبب حدوث الأمراض الخطيرة ، وكل من الزناة يفسد زوجة الآخر وأخته وبنته وأمه، وفي ذلك خراب العالم ، ولهذا كانت جريمة الزنا تلي جريمة القتل في الكبر ، ولهذا نهى الله عن قربه، وأخبر أنه فاحشة وساء سبيلا في قوله تعالى { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً }.
    والنهي عن قربه أبلغ من النهي عن فعله ، لأنه نهي عنه وعن الوسائل المفضية إليه ، كالنظر المحرم والخلوة بالمرأة الأجنبية ، واختلاط المرأة بالرجال ، وحرم التبرج والسفور وسفر المرأة بدون محرم ، كل ذلك لتجنب الزنا.قال الإمام ابن القيم : ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم بين الناس ، وإن حملت من الزنا ، فإما أن تقتل ولدها فتجمع بين الزنى والقتل ، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهله أجنبياً ليس منهم ، فورثهم وليس منهم ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم . وكذلك زنى الرجل فإنه يوجد اختلاط الأنساب وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد . ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين ؛ فكم في الزنا من استحلال محرمات وفوات حقوق ووقوع مظالم ، ومن خاصيته أنه يوجب الفقر ويقصر العمر ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس . ومن خاصيته أيضا أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان ، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدة الزنا . ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ، ولو بلغ الرجلَ أن امرأته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت .أ . هـ .
    وقد خص سبحانه حد الزنى بثلاث خصائص من بين سائر الحدود ، أحدهما : القتل فيه بأشنع القتلات ، والثاني : أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم ، والثالث : أنه أمر سبحانه أن يقام حد الزنا بمشهد من المؤمنين ، فلا يكون في خلوة حيث لا يراه أحد.
    ومن الكبائر الموبقة جريمتان عظيمتان مهلكتان كثر وقوعهما اليوم وتساهل الناس فيهما . وهما ترك الصلاة وأكل الربا .
    فأما ترك الصلاة فإنه كفر مخرج من الملة وإن لم يجحد وجوبها ، قال تعالى{ فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى } وقال تعالى عن أصحاب النار { ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ".رواه الإمام أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حديث صحيح إسناده على شرط مسلم . قال الإمام ابن القيم : لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، وأن إثمه أعظم عند الله من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر ،وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة … . فليتق الله المتهاونون بالصلاة فقد ضيعوا أعظم أركان دينهم بعد الشهادتين ، وضيعوا عمود الإسلام فماذا بقي لهم من الدين؟.
    وأما أكل الربا فقد أصبح متفشياً بين كثير من الناس غير مبالين بوعيد الله وعقوبته ، وقد أعلن الله الحرب منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم على أَكَلَةِ الربا فقال {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}. فليلبس أكلة الربا سلاحهم وليستعدوا لمحاربة الله ورسوله .روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود‏ ‏ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال ‏ ‏لعن الله آكل الربا ‏ ‏وموكله وشاهديه وكاتبه قال وقال ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل ‏.
    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
    أيها المسلمون: إن واقع المسلمين في أزماتهم الحالية ونكباتهم المعاصرة لم تعرف الأمة له مثيلاً من قبل ، لأن مكانة الدين قد تزعزعت في النفوس وتخلخلت العقيدة في القلوب إلا من رحم الله ودب الشك في صلاحية الإسلام لهذا العصر، وانبهر المسلمون بحضارة الغرب وفُتِح باب الاستيراد الفكري على مصراعيه وقامت اسواق التقليد ومهرجانات التبعية فتغيرت عبادات الناس وتغيرت أخلاقهم وسلوكهم وخلت الحياة من الروح، وأصبحت تقاليد موروثة يحافظ عليها من أجل أنها تقاليد، لا من أجل أنه دين ، فالعبادة تقاليد، والسلوك تقاليد، وحجاب المرأة الذي صار ينحسر شيئاً فشيئاً تقاليد .
    لقد عرف أعداء الأمة : كيف يغزوها ويضعفوها، فلم يجعلوا الدبابات ولا القاذفات ولا الصواريخ عابرة القارات هي سلاح المواجهة الأول بل استخدموا الغزو الفكري والبث الفضائي ، فسلطوا على المسلمين فكرهم وأخلاقهم وسلوكهم ، وجعلوا شريحة كبيرة منهم تنظر للغرب بأنه هو الأعلى والأكمل وأن ما عنده هو الأحسن ، وتشعر في قرارة نفسها بالذلة والمهانة ، فتشبهت بهم واقتفت أثرهم وأعرضت عن رسالة ربها ووقعت بما ذكرنا أمثلة منه من كبائر الذنوب والمعاصي واستحقت العقوبة ، قال تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . لقد سلَّط الغرب على العالم الإسلامي إعلاماً متكاملاً ، مقروءاً ومسموعاً ومشاهداً ، كله يصب في قناة واحدة ، وهي أن يقبل فكر وخلق وسلوك الغرب وأنه الأفضل ، وانتقاد وانتقاص كل ما يربط المسلمين بدينهم وعقيدتهم.
    فالمقالة الساقطة لمن يهوى القراءة ، والأغنية لمن يهوى الاستماع ، والتمثيليات والمسرحيات الهابطة التي تقوم على العشق والحب والغرام وتزينه في النفوس وتهدم أخلاق وقيم الإسلام لدى الناشئة الذين يتلَقَّوْن هذا السيل الجارف بلا رقيب ولا حسيب ولا حصانة ولا وقاية ، والقنوات الفضائية جعلت الغرب يتسلل إلى بيوت المسلمين حاملاً ما يشاء من فكر وخلق وسلوك ودين ، ويربي من فيها التربية التي يريدها.ثم جاءت شبكات الإنترنت بالإباحية والعري الفاضح وقد بلغ عدد المواقع الإباحية على هذه الشبكة أكثر من مليوني موقع يدخلها أكثر من 90% من المستخدمين .
    عباد الله : لن يتغير الحال ولن تتبدل الذلة إلى عز والهزيمة إلى نصر والضعف إلى قوة ما لم يغير المسلمون من واقعهم ويصلحوا ما بينهم وبين ربهم بالتوبة النصوح فبابها مفتوح ولن يغلق إلا إذا طلعت الشمس من مغربها .‏عن ‏ ‏أبي موسى الأشعري ‏ رضي الله عنه عن النبي‏ صلى الله عليه وسلم ‏قال :" إن الله عز وجل يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها. رواه أحمد وهو صحيح . ‏
    إن للتوبة منزلة عظيمة عند الله عز وجل فهو يفرح بتوبة عبده بل يحب التوابين وما ذاك إلا لسعة رحمته وفضله على عباده مع أنه الغني عنهم.قال صلى الله عليه وسلم : " لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش. قال: أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده " متفق عليه.
    واعلموا عباد الله أن أعظم زاجر عن الذنوب هو خوف الله تعالى وخشية انتقامه وسطوته .قال أبو الفرج ابن الجوزي : الخوف هو النار المحرقة للشهوات ، فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوة، وبقدر ما يكف عن المعصية ويحث على الطاعة، وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة، وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة والأعمال الفاضلة التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى ، كما علم من الآيات والأخبار، كقوله تعالى { هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون}. وقال تعالى{ رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه }. وقال تعالى { إنما يَخْشَى الله من عباه العُلمَاء } وكل ما دل على فضيلة العلم يدل على فضيلة الخوف لأن الخوف ثمرة العلم. أ . هـ . بتصرف يسير .
    وحق لمن لم يعلم ما جرى له به القلم في سابق علم الله تعالى من سعادة مؤبدة أو شقاوة مخلدة، وهو فيما بين هاتين الحالتين قد ركب الموبقات وخالف خالقه في المنهيات أن يكثر بكاؤه وأسفه وحزنه ونحيبه ولهفه، وأن يهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن يجأر إلى الله تعالى على ما سلف منه، من سوابق مخالفاته، وقبائح شهواته، عسى الله أن يوفقه إلى التوبة النصوح ، وأن يخرجه من ظلمات الجهل والعصيان إلى العلم والطاعة .قال بعض السلف : أرق الناس قلوباً أقلهم ذنوباً ، ولذا فقد غلب الخوف على الأنبياء والرسل والعلماء والأولياء قال صلى الله عليه وسلم :" إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " رواه مسلم ، وغلب أمن المكر على الظلمة الأطغياء، والفسقة الأغبياء، والجهلة والعوام، الرعاع والطغام، حتى كأنهم حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا سطوة العقاب، ولا نار العذاب { نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون } .
    فينبغي أن نكون على حال الخوف والخشية من الله تعالى، وعذابه وأليم عقابه، فإنه لا يجب عليه لأحد من خلقه شيء { قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً } .سئل سعيد بن جبير عن الخشية فقال أن تخشى الله تعالى حتى تحول خشيته بينك وبين معاصيه، فهذه هي خشيته، وأما الغرة بالله فهي أن يتمادى الرجل في المعصية، ويتمنى على الله المغفرة.وعن يحي بن معاذ قال: من أعظم الاغترار أن المذنب يرجو العفو من غير ندامة، ويتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وينتظر الجزاء بلا عمل، ويتمنى على الله مع الإفراط .
    معاشر المسلمين : إذا كانت معصيةً واحدة في أحد قد أنزلت الهزيمة بالمسلمين وقتل سبعون منهم وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته حيث خالف الرماة خطة المعركة وتطلعت بعض النفوس إلى الغنائم المادية، وكانت تلك الواقعة نذائرَ شؤم وأسبابَ هزيمة وخسارة لذلك الجيل الطاهر، جيل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، فكيف تنتصر أمة الإسلام اليوم وهي تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتلهث خلف الدرهم والدينار، وتسعى نحو المعصية وتستصغر الكبيرة وتستحل الربا والغلول ولا يخطر على بالها جهاد قط حتى لو أُخذت مقدساتها وسلبت أراضيها واستنصرها إخوانها، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها.
    إن مقارنة يسيرة بين حال الأمة في يومها وبين حالها يوم هزمت في معركة أحد توحي بأن الأمة اليوم لم تقم بأسباب النصر والتمكين التي وردت في كتاب الله تعالى وإنما هي في غفلة لم ترفع بالدين رأساً في كثير من بقاعها وأصقاعها وفي كثير من أحوالها متناسية قوله تعالى { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ، فالواجب على المسلمين العودة الصادقة إلى دينهم والتوبة النصوح لربهم وإعداد العدة وأخذ الأهبة والله غالب على أمره ولكن أكثرهم لا يعلمون .

    عدد المقيّمين 1 وإجمالي التقييمات 5
    12345